الخميس، 31 يوليو 2008

رنين...قصة قصيرة



بقلم/ فراس عالم 

- 1 -
ارتفع رنين الهاتف مدوياً كجرس كنيسة متزمتة، فتحت عيني ببطء بعد الرنين الخامس، أو السادس.. كان يواصل الرنين في إصرار محموم لا يريد أن ينتهي وكأنه نذير ملتاع يريد أن يطرق باباً مغلقاً ليبلغ أخباراً سيئة.
..( خبر السوء لا يتأخر )...
كانت أمي تقولها مبررة نزعها لقابس الهاتف عندما ننام ليلاً. تمنيت لحظتها لو أنني فعلت مثلها قبل أن أنام.
أنا الذي لم أعد أنعم بساعات نوم مريحة أو متصلة، كان.. ينبغي أن أكون أكثر حذراً قبل أن أسلم رأسي للوسادة المكورة تحت رأسي.
غابت بعقلي الخيالات مجدداً . تري من تراه يكون ؟ لا أحد يدق بهذا الإصرار في هذه الساعة المتأخرة أبداً.. .. تري كم الساعة الآن ؟.. لا ألبس ساعتي، منذ اشتريت ساعتي الغالية وأنا أنزعها قبل أن أنام.. أخاف عليها أن تخدش خلال حركة يدي العنيفة . كم أنا عنيف عندما أنام، أمي تقول أن ذلك يعود إلي شخصيتي، شخصيتي المغلقة والتي لا تبوح بما في داخلها وتفرغ انفعالاتها أثناء النوم.. أصدقائي يقولون إن دمي ثقيل، وأنني لا أصلح للمعاشرة.. زملائي لا يستلطفونني.. زواجي فشل مرتين متتاليتين.. أقنعتني بروعة العزوبية أخ.. الجو بارد بالفعل.. الوسادة لينة.. كم الساعة الآن ؟ ما الذي أيقظني ؟.. أنقلب علي جنبي الآخر.. أتثاءب بعمق.. و.. أخخخ.
ذلك الرنين الملعون.. لقد عاد ليدوي من جديد.. انتزعني من خيمة جميلة دخلتها للتو.. خيمة حريرية شفافة في وسط الصحراء.. صحراء مقمرة.. وسماء مليئة بالنجوم.. ورفيقة.. أخ.. كانت جميلة بالفعل.. لكن تباً.. ذلك اللعين الذي يرن في إصرار.. هذه المرة كأنه دائن شرس لا ينوي الانصراف قبل أن يأخذ دينه، ولكني لست مديناً لأحد.. أنا لست مديناً لأحد.. أجل.. غداً سأتخلص من هذا الهاتف اللعين.. سأرميه في البحر.. آخذه إلي أبعد نقطة في المحيط وألقيه هناك.. لن يعود ليزعجني أبداً .
-( ترررن.. .. .ترررن)
أنقلب علي بطني.. أرمقه بنصف عين ملقي هناك في آخر الغرفة، إلي جوار كومة كبيرة من الجرائد، أقيس المسافة ببصري، علي أن أسير أربعة أمتار كاملة.. هذا يعني أن أستيقظ تماماً .أن أضيع هذه اللحظة الثمينة وأن أظل أخبط رأسي في الحائط ما بقي لي من الليل . ولكني أفعل الشيء نفسه الآن.. وهذا الرنين الوقح يخبط داخل جمجمتي بلا هوادة.. ولا يريد أن يتوقف.. اللعنة.. سأشتمه.. سأشتمه مهما يكن هذا المتصل السمج !
-(مساء الخير)
كان صوتاً ذكورياً، دافئاً، ورائقاً، كأنه صوت مذيع أو مطرب مشهور
-(نحن قناة .... ، نريد أن نأخذ تعليقك علي الإصلاحات السياسية الأخيرة بصفتك خبيراً في الشؤون الإقليمية..) صمت للحظة أستجمع شتات عقلي الممزق، ثم انفجرت صائحاً..
-( هل تمزح يا ابن ال(.. .. .)، تتصل في منتصف الليل كي تمزح مزاحك الثقيل هذا.. قسماً لأعلمنك الأدب يا قليل الأدب.. .
ضحكة عميقة ورنانة جعلتني أوقف سيل شتائمي، ليست ضحكة سخرية أو استهزاء، ضحكة صافية ومرحة أقرب ما تكون إلي الاندهاش .
- (مالذي يضحكك؟)
بنفس واحد ولهجة حاولت ألا تجعلني أبدو مندهشاً أو مترقباً قلتها .
توقفت الضحكة العميقة تلك.. سعلة خفيفة.. نحنحة.. ثم
- (المعذرة.. .المعذرة يا دكتور فيصل لم أكن أنوي أن أسخر منك أبداً )
- (أنت وقح وقليل الأدب)
قلتها من غير اقتناع حقيقي وأنا أترقب حديثه الذي أحسست أن صوته به شيء خفي يشدني .
- (آسف.. آسف بشدة.. أكرر اعتذاري.. لقد قلت لك ذلك علي سبيل الدعابة.. أنت الذي أوحيت لي بالفكرة )
-(أنا.؟؟!!)
-(أجل أنت . ألم تعتقد أنني مذيع.. أو مغن مشهور.. لقد قررت أن أبدو كمذيع.. أردت فقط أن أحفزك علي الاستيقاظ )
هذا الكلب عم يتحدث؟؟ مذيع أو مغنٍ مشهور؟؟ كيف؟
- (أعرف أنك تتساءل.. لا تهتم يا صديقي هذه الأمور ثانوية ولا تهم أحداً.. أعرف أنك ذكي وأعقل كثيراً من أن تضيع جهدك في أمور تافهة كهذه )
- (ليكن.. الأمر كله تافه عندي، ولا أريد سماع كلمة إضافية . اذهب واعبث مع مغفل غيري !).
أغلقت الخط ولكن في غير حماس.. شيء في داخلي بدأ يلومني، كان ينبغي أن أعرف من هو صاحب الصوت الدافئ، وكيف خمن الفكرة التي في عقلي مباشرة ؟ بدأت أشعر بالندم. عدت إلي فراشي.. كورت الوسادة تحت رأسي.. وعبثاً حاولت أن أنام.
- 2 -
في الليلة التالية قربت الهاتف إلي جواري علي السرير، أطفأت الأنوار وظللت واضعاً يدي علي السماعة الباردة منتظراً اتصاله . ذلك الصوت المهذب العالم ببواطن الأمور، سوف يتصل بالتأكيد، سيتكلم بتلك اللهجة الراقية، لن أشتمه اليوم، سأدعه يتحدث ويقول ما يريد ربما ألومه برفق، وأعتذر له بعد ذلك وقد نغدو أصدقاء فيما بعد، من يدري. أنا لا أملك أصدقاء وهو يبدو مريحاً وذكياً.. ثم انه يعرفني جيداً.. يعرف ما أفكر فيه أجل ربما هو الصديق المنتظر.. لم لا؟ علي أن أصبر وسيتضح كل شيء.
شرعت أنقر بأصابعي علي الجهاز البارد لحناً قديماً أحبه وأدندن بصوت خافت..
صباحاً.. وجدت الهاتف مبعثراً علي وجهه علي الأرض والسماعة محشورة بين المرتبة وحافة السرير كشخص يوشك علي السقوط من فوق جسر ويطلب النجدة !
- 3 -
أويت مبكراً إلي الفراش في المساء التالي وضعت الهاتف علي الأرض بجوار السرير، فتحت نوراً خافتاً وبدأت أقرأ كتاباً سياسياً كبير الحجم آلم يدي . نحيته بعد فترة وشرعت أفكر في صديقي المحتمل.. سيعود ليتصل، أنا متأكد، يقين خفي يخبرني أنه سيعود، ربما كان مشغولاً البارحة أو غاضباً مني أو حاول الاتصال متأخراً بينما الخط معطل، اليوم أنا أكثر حذراً، الهاتف بحالة جيدة وقريب من متناول يدي . سأعتذر منه.. سأخبره أنني كنت غاضباً ومتوتراً وأنني لم أفق تماماً من تأثير النوم.. أنت شخص لطيف ومهذب وستقبل اعتذاري لاشك.. ربما أدعوه لزيارتي.. سأهديه مجموعة من الكتب.. بالتأكيد هو قاريء جيد.. قارئ نهم.. لست أشك في هذا، إن شخصاً يداعبك بسؤالك عن قضية إقليمية لهو شخص واسع الاطلاع حقاً، ربما كان كاتباً أيضاً.. من يدري ؟ربما أحد الكتاب البارعين في السياسة أو الأدب. سأسأله وسيجيب، سنحيي نقاشات مطولة هنا، سأحرجه بأسئلة كثيرة طالما أحرجت بها الآخرين لكنه سيجيبني بلباقة.. (دكتور فيصل، هذا سؤال ذكي لكنني أعتقد من وجهة نظري.. )
لا.. لن يقول من وجهة نظري.. أجل.. هو متواضع وذكي.. سيكون حريصاً علي انتقاء عباراته..
-(ترررررن)
قفزت كالملسوع أبحث عن الهاتف
-( مساء الخير دكتور فيصل)
- .. .. .
- (أرجو ألا تكون نائماً أو مشغولاً)
حاولت أن أجيب بأنني لست نائماً ولست مشغولاً إلا به، لكن لم يصدر من حلقي سوي حشرجة غير مفهومة..
-( عظيم.. عظيم جداً.. أنا لا أحب أن أكون فضولياً.. لا أحب الاتصال في أوقات متأخرة ولا أحب إزعاج الآخرين لكن ظروفاً قاسية هي التي تضطرني لذلك).
- .. .. .
مالذي يعنيه ب(قاسية)
- (لقد سررت بالتعرف إليك دكتور فيصل، أنت الأستاذ الخشن الصارم. لست محبوباً كثيراً حسب ما أعرف في الجامعة.. أليس كذلك ؟.. لا تغضب أرجوك.. ينبغي أن أصارحك بالحقيقة التي تعرف .
- .. .. .
- (حسناً.. لا أحد يحبك حباً استثنائياً ولا أحد يكرهك أنت من ذلك النوع الذي يتقبله الناس لأنه موجود وحسب، يتعاملون معه كأنه قضاء وقدر، مسلمة من مسلمات الحياة الجامعية، تماماً مثل طريق الجامعة المزدحم ومدخلها العتيق وسلالمها المكسرة.. لا احد يحب هذه الأشياء ولا أحد يكرهها كذلك الجميع يتعامل معها لأنها هناك . لكن المشكلة أن أحداً لن يحزن عندما يري ذات يوم عمالاً يحفرون الطريق القديم أو يهدمون المدخل أو حتي يجددون السلالم العتيقة بل إن البعض سيبدي ارتياحه لتغيير كهذا...
صمت قليلاً ومضي يتابع:
- (أنا آسف دكتور فيصل لا تغلق الخط أرجوك لا بد أن أكمل حديثي. أنت شخص منضبط، لا تجامل، لا تتغيب عن محاضراتك، لا تظلم أحداً، بل أنت حتي لا تدخن.. هذا جميل.. جميل جداً.. لكن لماذا لا تبدو سعيداً ؟؟ هه؟
لماذا تتوتر وتتصلب أطرافك بمجرد الحديث العابر عن أشياء تافهة كالملابس الداخلية والسجائر وشفرات الحلاقة؟
أنت متعب ومنهك لأنك متورط.. متورط في ذلك الإطار الصارم الذي حبست نفسك فيه.. في المعطف الأسمنتي الذي ألف الناس أن يروك داخله، في حاجبيك المقطبين علي الدوام، في الخطوط العميقة التي تحفر جبهتك، في الاحترام المبالغ الذي يحاصرك به الآخرون، في درجتك العلمية المهيبة.. .. مرجل روحك يتوقد.. يغلي.. يقذف النار .، وأنت تمور، تتخبط.. وتشقي لا تعرف كيف تتصرف...
- (أصمت)
بصوت خافت مبحوح نطقتها
-(لا زوجة لك ولا أصدقاء.. لأنه لا أحد يصادق الأسمنت.. وحتي الذين حاولوا أن يتكيفوا مع برودة وصلابة الغلاف /الصنم.. قمت بصدهم وأبعدتهم لأنك تعلم أن الصنم رغم ذلك كله هش ورقيق ومعرض للانكسار وأنك لا تعرف حقاً متي ينكسر ومالذي سينتج عن انكساره.. وهل ترغب أصلاً في تحطيمه أو لا.. أنت في وضع حرج بالفعل.. .
- (أصمت عليك اللعنة)
- (الظلام والنار لا يجتمعان)
- (تباً)
- (أخبرني ألازلت تشعر بالذنب تجاه سيجارة الحشيش التي دخنتها الأسبوع الماضي؟)
- (أو تجاه تلك الفتاة التي تكلمها كل ليلة في الهاتف وتتبذل معها في الحديث كأنك مراهق؟)
- (أو تجاه).. .
- (أصمت يا حيواااان.. .لا أسمح لك.)
- (عفواً.. عفواً.. يا دكتور.. أنا لا أتهمك بشيء ولا أحاسبك.. هذه ليست مهنتي.. أنا أعرف أنك رجل خيّر.. خيّر بالفعل.. وأن هذه الغرفة التي تجلس فيها بالذات تشهد ليالي طويلة من البكاء والتهجد.. هي ليال متقطعة.. لكنها مخلصة وصادقة.. أنا أشهد علي هذا .كما أعرف أيضاً أن جزءاً كبيراً من أموالك يتحول إلي صدقات دون أن يعلم أحد، أنت رجل صالح يا أستاذ.. لنقل رجل صالح له هفوات.. لا احد يلومك.. المشكلة هي أنت.. لو أنك زرت طبيباً غداً لأخبرك أنك علي شفا الموت ولسرد عليك قائمة طويلة من الأمراض تبدأ بضغط الدم والسكري ولا تنتهي بانسداد الشرايين التاجية.. وسيعطيك قائمة طويلة من الممنوعات التي أنت ممتنع عنها أصلاً).
صمت طويلاً . وأنا أتنفس بصوت مرتفع أقرب إلي اللهاث قبل أن يردف في صوت خافت.
- (المشكلة تكمن في قلبك.. هناك في الحجرة الصغيرة الضيقة داخل صدرك.. وأنا هنا لمساعدتك .لقد أخبرتك من قبل أنا لا أظهر إلا في الظروف القاسية، وظرفك قاس بالفعل)
- (سأخبرك ما الذي يمكنني أن أساعدك به.. سنبدأ بوسيلة سهلة، ثم نتدرج فيما بعد، سنبدأ بالحكي.. سأتصل بك كل ليلة لتحكي ما حدث معك، ما تنوي عمله، أفكارك المجنونة، أفكارك الوقحة، أفكارك المبتذلة، ستحكي كل شيء.. كل شيء يا دكتور فيصل.. لا حرج هناك.. ولا خوف.. أنا أعرف كل شيء مسبقاً.. وأنت ذكي بحيث إنك لن تسأل أسئلة تافهة من طراز كيف عرفت؟ وماذا تريد؟.. لقد اتفقنا من قبل أنك لن تسأل).
- .. .. .. .
- (تحية طيبة وتصبح علي خير).
وأغلق الخط.. لبثت قابضاً علي السماعة وعيناي غائمتان بدمعة حائرة وصداع عنيف يشج رأسي.. فتور ووهن ينخران أطرافي.. عاجز عن التفكير.. عاجز تماماً كجندي هرب من معركة خاسرة بعدما شاهد فرقته تباد، تسللت تحت الغطاء.. وأغمضت عيني.
- 4 -
الهاتف.. وأنا إلي جواره ( أنت لست صديقي ولن أحكي لك شيئاً.. أنت كاذب ومنافق وتحاول السيطرة علي بألاعيبك القذرة.. أنا أكرهك.. ولن أرد علي اتصالاتك بعد الآن.. اذهب إلي الجحيم.. أو افعل ما شئت.. )
رددت العبارة للمرة الألف.. أجل لن أسمح له بالسيطرة علي ذلك الثعبان الناعم.. .إنه دسيسة شخص ما.. ولن يخدعني.
رن الهاتف بعد منتصف الليل.. أغمضت عيني.. كتمت أنفاسي ورفعت السماعة.. أتاني صوته العذب الرخيم محيياً لكني لم أمنحه الفرصة، قذفت العبارة التي حفظتها في أذنه وأغلقت الخط.. زفرت في ارتياح..
لقد انتهي كل شيء .
- 5 -
مساءً.. ..
الهاتف صامت إلي جواري كثعبان ميت.. أنا أدخن سيجارة (مخصوصة)، أحدق في السقف وأنفث الدخان.. دخاناً أزرق كثيفاً.. يتجلي لي (هو)..
- (كم أنت جميل يا دكتور فيصل.. تبدو جميلاً وأنت خائف ومرتبك.. جميل في ثياب النوم التي تضفي عليك بساطة وألفة أكثر من ملابسك الرسمية صباحاً.. ليس من حقك أن تحار وتتوتر.. أنا هنا لمساعدتك قلت لك.. ليس لي أغراض أخري.. أو مطامع من التي تظن..).
عيناه الواسعتان ترنوان لي من بين الدخان.
- (لا تفعل هكذا بنفسك.)
عسليتان.. أم خضراوان.. أم زرقاوان؟.. لا أكاد اتبينهما.. جبهته عريضة شديدة البياض لا.. ليست شديدة البياض لكنها صافية ومتوهجة تماماً كصوته.. .و شعره.. شعره الكستنائي المموج.. يصففه علي الجهة اليسري.. يغطي أذنيه ويبتسم.. تظهر غمازتان عميقتان في وجنتيه وأسنان بيضاء منسقة.. و..
- (ألن تحكي لي ما حدث اليوم)
- (ولكنك تراني)
- (أحب أن أسمعك)
- (سأحكي.. .. .. .. .. .
.. .. .. .. .
.. .. .. ..
سأحكي.. ..
.. .. .. ..
.. .. .. ..
أخبرني في تلك الليلة أنه ذاهب إلي العمل نيابة عني، وأنه أقنعهم أنه أنا وأنهم رحبوا به، ووعدني بتحسين صورتي لدي الطلاب والزملاء وأنه سيكون لي صديقات ومحبوبات كثيرات، لن أعود الطريق المسدود أو المدخل العتيق.. هكذا وعدني.. أصبح يزورني ويحكي لي كل شيء.. بإمكاني أن أستدعيه بطرق شتي.. طرق كثيرة جداً، لكنه أغلب الوقت يأتي دون دعوة.. يجلب لي السجائر وشفرات الحلاقة وأشياء أخري حميمة..
جرس الهاتف يدق.. .
يدق طويلاً.. .
كم يبدو رنينه جميلاً.. .

الجمعة، 25 يوليو 2008

قصة قصيرة ... نافذة زرقاء

(1)
كان يود أن يكتب مذكراته ذات يوم.. أن يبدأها بعبارة فاخرة من طراز أنا الجنرال فلان.. قائد الحرب العظمي التي عرفتم وذقتم،. وقد قررت أن أحكي لكم كل الأسرار التي ظللتم تتكهنون بها دهراً. حان الوقت أن أطلعكم علي السر الرهيب الذي في حوزتي، وأن أشرح لكم خطط الحرب الظافرة التي صنعت. لكنه ليس الجنرال فلان.. ولم يقد حرباً مظفرة في حياته.. ولايملك سراً رهيباً ليطلع أحداً عليه!!
(2)
تلمع المربعات البيضاء والسوداء علي الشاشة. يعجبه وضع اللوحة الرأسي غير المألوف في اللعب التقليدي، يرتب جنوده السود وخيوله وفيلته وقلاعه بزهو كبير. يبدأ حركته المغرورة بالجنود المتوسطين يسترجع كل الخطط التي أعدها للإطاحة بخصمه. يبدأ الجهاز حركاته بسذاجة مفرطة، ينقل خيوله باندفاع مع الحركات الأولي.. يبتسم ابتسامة صفراء ويدفع بجنوده لمحاصرة الخيول الجامحة. تفاجئه بانقضاضها علي المساحة الخالية خلف الجنود.. تحرجه بتهديد الملك في عقر مربعاته.. يدرك أنه سيخسر القلعة والفيلة لا شك ليحمي الملك.. وأن عشر دقائق كفيلة بتمزيق جيشه الأسود ومطاردة ملكة الضليل في مهانة علي المربعات المتداخلة.. تتحرك يده بارتباك نحو الفأرة وتضغط زر إعادة اللعبة من جديد.
(3)
يلمع الركن الأسفل في الشاشة، مربع صغير علي شكل ظرف يبرق في تتابع بجوار أرقام الساعة الإلكترونية، يحرك السهم بلهفة ليفتحه..
- مرحباً، ممكن نتعرف؟
تبرز الرسالة في وسط المساحة المتخمة بالرسوم
- ممكن أكيد
يعاود الكتابة ويضغط زر الإرسال.
ثلاث أو أربع رسائل متتابعة تسأله عن اسمه وعمره وشكله، يجيب عنها بصراحة شديدة , يبادلها بأسئلة أكثر لهفة. تتباعد المدد الفاصلة بين الرسائل.. تتأخر الرسالة الأخيرة كثيراً، يتبعها برسالة أخري.
- أين أنت؟
عندما يكتب بجرأة يتجاهلنه تماماً، وعندما يغدو صادقاً ومباشراً يتسربن منه بسهولة. التمع الركن بالرسالة الصفراء.. توسد المستطيل الأبيض الشاشة وفي وسطه عبارة واحدة:
- باي... مشغولة .
(4)
الوصول الي هذه الصفحة غير مسموح به..!!
نقرتان أو ثلاث.. أرقام أخري تبدل.. وتظهر الصور الفاتنة علي الشاشة..
تحذير.. إذا كان عمرك أقل من 18 سنة أو تقيم في بلد يمنع دخول هذه المواقع فبادر بالخروج وإلا.. .
يتجاهل قراءة بقية العبارة، يضغط زر الدخول، تتابع العروض والبسمات والأجساد البضة المتألقة والنظرات الذابلة المفعمة بالطلب والأوضاع المغرية بالاستجابة. تنتابه الحماسة يقرر الاشتراك في عضوية الموقع.. يدون رقم بطاقته المصرفية ومعلومات مقتضبة عنه.. صورة أكثر إغراءً.. عبارة أكثر بذخاً و.. أنت مدعو لدخول الجنة !!.
يزداد تلمظه علي الكرسي تتسع عيناه لتمتص كل فوتونات الرغبة المتطايرة من الشاشة. لكن تحميل الموقع يتباطأ.. صفحة حمراء تقطع عليه سيل أحلامه...
بطاقتك المصرفية غير سارية المفعول!! .
(5)
نافذة زرقاء صغيرة.. بل نافذة زرقاء متوسطة.. علامة تنبئ أن برنامجاً ما يتم تحميله علي الجهاز.. ضوء باهت ينعكس علي كريستال الشاشة يرتطم باطن قدمه الموجهة الي الجهاز.. قدمه الممتدة علي طول المكتب، وجسده المتراخي يتبعثر فوق الكرسي.. رأسه ملقاة الي آخر مدي يسمح به كرسيه الصلب، ودخان يعبق معلقاً فوق رأسه في حلقات ينفثها في برود.. النافذة الزرقاء تومض في تتابع..
تم التحميل
تخفت مجدداً، يتحرك سهم صغير - يوحي بتشغيل شيء ما - يهز رجليه مجدداً دون تركيز.. يعلو صوت صادح لشيخ يهتف في خطبة سياسية ممنوعة..
يا أخي دع الناس تتحدث.. ما الذي يضيرك إذا تنفس الناس؟
يبتسم بخبث ويواصل نفث دخانه، وطرقات متتابعة علي الباب تعلو دون أن يعيرها اهتماماً.

السبت، 19 يوليو 2008

«المشبك الخشبي» نصوصٌ بهمّ شعري



«المشبك الخشبي» نصوصٌ بهمّ شعري
ليليان يمين الحياة - 14/07/08//
«المشبك الخشبي» مجموعة قصصية جديدة للكاتب السعودي فراس عبدالعزيز عالم (المؤسسة العربية، 2008) هي أشبه بقراءة للذات المثقلة بالقلق والهواجس التي تنبثق نصوصاً في محاورة اللاوعي.
ليست الكتابة من خارج التقليد ما يميز تجربة فراس عالم الشعرية فقط بل ذلك الإيقاع الشخصي المنبثق من الأعماق فتتدفق هواجس الكاتب التماعات وقفزات في اللاوعي فيرسم نصوصاً ذات مسارات غير متوقعة بعيداً من الآلية والمنطق، نصوصاً تخيّم عليها السخرية السوداء والدعابة الحزينة والانعطافات المفاجئة فإذا بها تواجه المجهول والقارئ في رحلة استكشاف.
تحتوي المجموعة على 19 نصاً أو قصة قصيرة والقارئ يستطيع ان يختار طريقه في مطالعتها حيث لا فرق في التوزيع وترتيب المشاهد التي تتراوح بين الرمزية وأخرى ذات دلالات مباشرة.
ينطلق فراس عالم في مجموعته من نص «حيث لا يراني أحد» الذي أخذ شكل القصيدة فتميز عن سائر النصوص الأخرى الأقرب الى القصة القصيرة، وهذا التميز في الشكل أراده الكاتب لإبراز هذه القصيدة التي جاءت بمثابة توطئة تعكس رؤية الشاعر الى الحياة، فيقول: «كل الطرق تؤدي الى لا شيء، الى صحراء بلا نهاية، تقتل الأمل في كل طموحاتك بالوصول... ما الاختراق الذي تتوقعه؟ أي عالم وردي تنتظر؟ احمل حقائبك وارحل الى آخر الدنيا، ستبقى مرارتك داخل حلقك... صدقني... لا شيء يمحو وهن الانكسار».
هذه الرؤية التي تسيطر عليها «الوقفة الوجودية» تتماهى مع عالم الشاعر الفرنسي رامبو وسواه من الشعراء الذين واجهوا الدنيا مواجهة شرسة.
أما نص «بياض» فيعالج حال الكتابة وذلك الصراع الذي تخلقه الورقة البيضاء في نفس الكاتب فهي جحيمه وفردوسه، لعنته وخلاصه وأمام بياضها تتداخل الألوان من أصفر وأخضر وأحمر «... ثم يتمادى الأحمر ليغمر الصفحة البيضاء كأنه بقعة دم كبيرة. تبتسم الحروف المصبوغة ابتسامة غير مهذبة... تغمز بعينيها وتدفع لسانها في وجهي» حال الكتابة هنا هي أشبه بدوران جميل يخرج منه الكاتب ليدرك انه لا يحسن صناعة أي شيء آخر سوى التعبير بالكتابة.
تتوالى النصوص متخذة شكل القصة القصيرة جداً بحيث يعتمد الكاتب في معظم الأحيان عدداً محدوداً من الكلمات قد لا يتجاوز المئتي كلمة. وتتميز القصص بغياب الشخصيات الثانوية فكل شخصيات المشهد أبطال والنص يتخلى عن كل زائد محافظاً على الضروري.
الصمت والكبت يدمغان نص «شارب لث» ويتراوح نص «أنا وصديقي» بين اليأس والشعور بالدنيوية، ويتشابه النصان بكثرة اللقطات العابرة التي نجحت عدسة «المصور» البارع وهو الكاتب هنا في التقاطها وتكثيفها وتحويلها في مصلحة عالمه الشعري: «تأملت تقاطيع وجهه الحادة، حاجبيه الصغيرين المضمومين الى بعضهما دائماً، شفتيه الرقيقتين والمنتهيتين بزاوية التحام حادة وعينيه ذاتي اللون الأزرق المريب... طافت بذهني غرفتي المشعثة، والكتب المتناثرة والأدباء المتمردون والفنانون المنتحرون، الكتب الكثيرة التي قرأت والليالي الساهرة مع أبطال الخيال... والانفعالات المحببة عند سطر النهاية».
يتميز أسلوب فراس عالم ايضاً بلمسة من السخرية وبشيء من العجائبية التي تقلب منطق الأشياء، لكن السرد بما فيه من سوريالية وغرائبية جاء في بعض النصوص مبالغاً به فيتشتت أكثر مما ينبغي. نص «العاشقة» تحول الى ما يشبه فيلم رعب ولبست العاشقة ثوب مصاصي الدماء عندما أدخلت السكين في صدر حبيبها الميت لتقتلع قلبه وقد «سمعت صوت نصلها يتكسر عند العظام»، أخرجتها وهوت بضربة عنيفة على الصدر حتى سمعت صوت تهشمه لتخرج يدها «مخضبة بالدم، تعتصر كتلة صغيرة في حجم قبضة اليد تهتز في وهن وتنز دماً قانياً». وإذا كان المقصود محاولة لقلب المألوف إلا ان القارئ يخرج بانطباع مشوش عن عالم غامض.
تنهض البلاغة في «المشبك الخشبي» على مشهدية بصرية تخاطب العين أكثر من الأذن ويتقن الكاتب التكثيف والاخترال، في نص «رجل السيجار» يقول: «سحبت نفساً جديداً من السيجار المعطر، تنشقته بعمق أكبر، أطبقت بقوة وأنا أرى الأطياف تتلون أمامي بحوريات عاريات يرقصن مع غزلان برية رشيقة». وتتخذ المشهدية احياناً شكل الكتابة المسرحية، ولعل نص «المشبك الخشبي» مبني على هذا النوع من الكتابة فجاء مقسماً على خمسة مشاهد منفصلة ومرقمة. أما المقدمة فأشبه بوصف خشبة المسرح: «الغرفة واسعة بلا جدران، مضاءة بضوء خافت يأتي من اللامكان وأشياء كثيرة متناثرة في وسط القاعة»، من ثم تتوالى الشخصيات مع التقطيع الفني والحوارات المقتضبة والحركية المطلوبة في المسرح «تتقدم (هـ)... يبدو أنها أكبر من (س) قليلاً... تحتضنه في حب. تقوم والكتاب بين أحضانها...».
يضع فراس عالم قارئه وسط زوبعة من المشاعر والرؤى لتضيق الفسحة في النص ما قبل الأخير «لا تهتم»، فتعود الأسئلة دفعة واحدة وأكثر إلحاحاً واجدة لنفسها موقعاً على خريطة عقل الكاتب الذي تأخذ أنفاسه تضيق... وتضيق.
بعد هذا المشهد المأزوم يأتي النص الأخير «نقطة تحول» ليحدث تحولاً غير متوقع في مسار الكاتب الوجداني والآخذ في التصاعد فيلخص بذلك نظرته الخاصة الى العالم، ويجد فجأة في الأسطر الأخيرة الطمأنينة والأمل المنشود: «عندما كنت اقف بباب المسجد خارجاً شعرت أنني أكاد اطير، نظرت خلفي فلم أجد تلك القوافل السود التي كنت أجرها... كلها تلاشت وحلّت محلها افراس بيض تحمل ركائب عجيبة تأملتها وأنا أمسح دمعة شكر فرت من عينيّ. ألم أقل لكم ان هذه الزيارة كانت نقطة تحول... تحول كبير».

الأربعاء، 2 يوليو 2008

إعلان مبادئ.... مرتبك!

يبدو أنني سأعترف قريباً بأنني لا أنتمي لجيل الشباب الحالي رغم أنني لازلت في بداية الثلاثينات، لكن ما شعرت به من الحيرة و الضياع و أنا أتخبط بين صفحات الإنترنت خلال محاولة إنشاء المدونة ذكرني بما كانت جدتي تقولة عندما تتصل ببيتنا و تسمع صوت تسجيل آلة الرد الآلي على التلفون، كانت تصاب بالحيرة و تشك في الرقم الذي طلبته بصعوبة ثم تستلم و تضع السماعة و تقول لمن جاورها
( في رجال في بيت عبدالعزيز يبربر في التلفون!!) .

كنت فيما مضى أبتسم من ردة فعل جدتي و لكنني اليوم أدركت ما كانت تشعر به من غربة و حيرة أمام غزو غريب من عالم آخر يصيبك بالإرتباك و لا تشعر بالراحة للتعامل مع برودته و تعقيده في حين يتعاطاه الآخرون ببساطة كأنه من بديهيات الحياة التي ولدوا وهم يتقنونها



لماذا المدونة؟؟



أكاد أراك ..و أنت تمط شفتيك و تقول (إيش جبرك على كدة؟ موعاجبك اتكل على الله..سيب المدونات للفاهمين و أطلع إنت منها)

و هذا بالفعل ما كنت أعتقده، بالإضافة الى عامل مهم آخر هوما الجدوى من التدوين؟ مالذي سيزيد في الدنيا لو أضفت لها بعض الأسطر على جدارها الإفتراضي؟ وهل سأجد و سط مليارات الكلمات المنثورة من يقرأ كلماتي؟ مالذي و من الذي ستغيره تلك الكلمات؟

والإجابة على كل ماسبق بإختصار هي .....لاشيء

لن تغير كلماتي شيئاً، و لن تضيف الى علوم الكون أو معارف الدنيا أي فائدة تذكر، و ربما تبقى حتى تتحلل في الفضاء دون أن يقراها أحد.

لكنني ببساطة قررت أن أكتب المدونة لسبب بسيط جداً

هو أنني مللت من عنت مشرفي المواقع و المنتديات..

أقرأ الموضوع على موقع جريدة الجزيرة أو الإقتصادية و أتحمس للرد و التعليق و أكتب معتقداً أنني أضفت للخبر و بينت الحقيقة و أرسل الرد و تأتيني الرسالة الأنيقة ( شكراً..سوف يضاف تعليقك بعد مراجعته) و لا تسأل عنه بعد مراجعته لأنه إما أن يختفي تماما كطفل تاه يوم الوقفة ، أو يأتي مبتوراً ناقصاً كشحاذ معوق يجلس بوضع إحترافي في عرفات ....يوم الوقفة أيضاً.

أما مع المنتديات فالوضع مختلف قليلاً ..تكتب الموضوع بعد أن تطلع روحك، و تجتهد في التوثيق و الاستشهاد و التنسيق، و يظهر بدون مراجعة و الحمد لله لكنه كمواليد زمن الكوليرا ..لا يعيش إلا أيام قليلة ثم ينتقل إلى رحمة الله ولا تسأل عنه أين دفنت جثته و لا تحاول الإستعانة بصديق حتى لو كان بدرجة مخبر ممتاز مثل السيد المهيب "جوجل" حفظة الله و أبقاه

لأجل هذه الأسباب البسيطة و المهمة قررت أن أتبهدل قليلاً أو كثيراً لا يهم و أن أتحمل بربرة و غثاء التعامل مع صفحات النت كي أحفظ كرامة بناتي/كلماتي و أجعل لهن بيتاً يصونهن و يحميهين من الشطب و القص و التقطيع، و ليكون مرجعاً لي إذا جار الزمان على ذاكرتي فأجد فيه قصاصاتي القلائل التي دائما ما تضيع ولا أستطيع أن أجدها مهما حاولت من جهد



دعوة للراحة!!

هنا سأتمدد على كنتبي الأثيرة و أسرد كل حكاياتي المثيرة، سأتفلسف براحتي، و أتكلم في السياسة و الكياسة و التياسة،في الأفلام و السينما و الممثلين، في الكتب و القصص و الصحافة، في الصحة و التعليم و النفط و في أي شي يخطر لي ساعة سلطنة دون أن أعتذر للسيد المشرف أو أحمل هم السيد المراجع.

سأجلس بملابسي المنزلية المريحة و أتناول القهوة المرة مع التمر أو الجالكسي أيهما أقرب، و أرفع صوت قناة الجزيرة و أسولف، فإن أحببتم الإنضمام للسواليف حياكم الله اتفضلوا و البيت بيتكم وخذوا راحتكم على الآخر.. وإن ما عجبتكم الجلسة لا تنسوا تقفلوا الباب وراكم و تطفوا نور الدرج...ترا الكهربا صارت غالية...لكن نحكي عن الكهربا بعدين...حياكم الله.