الأحد، 2 نوفمبر 2008

حكاية ساعة من الزمن ..قصة من الأدب الأمريكي


بقلم: كايت شوبن

kate chopin

ترجمة د. فراس عالم

لأن السيدة (ميلارد) كانت تعاني من مشكلات صحية في القلب، كان لابد من اتباع أكثر الطرق لطفاً وحكمة لإبلاغها نبأ وفاة زوجها.

تولت شقيقتها (جوزفين) إبلاغها بالنبأ، أخذت تستخدم عبارات مبطنة وإشارات متكتمة حتى أبلغتها الخبر، كان (ريتشارد) صديق زوجها حاضراً، في الحقيقة كان هو أول من عرف بالخبر حيث كان جالساً في مكتب الجريدة عندما وصلهم خبر كارثة الطريق السريع واسم (برنتلي ميلارد) يتصدر قائمة القتلى، انتظر حتى وصلت البرقية التالية لتؤكد النبأ، عندها خرج مسرعاً إلى منزل صديقه ليستبق أي محاولة طائشة وغير مكترثة من الآخرين لإبلاغ الزوجة الخبر الحزين.

لم تكن ردة فعلها تشبه ردة فعل الزوجات المكلومات، فبعد أن سمعت الخبر بقيت فاقدة للإرادة غير مستوعبة لخطورة الخبر، ثم انفجرت فجأة بالبكاء على كتف شقيقتها، وعندما هدأت عاصفة أحزانها قامت مسرعة إلى حجرتها وطلبت ألا يرافقها أحد. غاصت في كرسيها المريح المواجه للنافذة المفتوحة في غرفتها منهكة من الإجهاد الذي يجثم على جسدها وروحها. وقع بصرها - من خلال المساحة الممتدة أمام نافذتها- على قمم الأشجار المتراصة وهي تستقبل الربيع، ورائحة المطر تعبق في الجو. كان بائع متجول ينادي على بضاعته في الشارع المقابل ورغم صوته الجهور استطاعت سماع صدى خافت لأغنية جميلة يغنيها شخص ما من بعيد وعدد لا محدود من العصافير يغرد على إفريز الشرفة.

كانت السماء تظهر كقطع زرقاء متناثرة هنا وهناك بين طبقات السحاب الكثيفة المتراكمة فوق بعضها البعض. كانت قد ألقت رأسها إلى الخلف ليغوص في حشية مسند الرأس الطرية وظلت ساكنة من دون أي حركة باستثناء الشهقة الخافتة التي انطلقت من حلقها وانتزعتها كطفل صغير من حلم جميل.

تعد السيدة ميلارد إذا نظرت إلى وجهها شابة ذات ملامح مقبولة وهادئة، وخطوط وجهها تدل على القوة والتحكم، لكنها الآن لا تظهر سوى الحملقة الناعسة في عينيها والتي تسمرت على إحدى تلك البقع الزرقاء في السماء، لم تكن تحديقة عفوية بل علامة واعية على تفكير عميق.

هناك شيء ما مقبل نحوها، شيء كانت تنتظره لكنها لا تعرف طبيعته! شيء ماكر ومراوغ لا يقبل التسمية، لكنها تشعر به يتسرب عبر زرقة السماء، يقترب عبر الأصوات والروائح والألوان التي تملأ المكان. أخذ صدرها يعلو ويهبط في اضطراب، لقد بدأت تدرك كنه الشيء الذي يقترب ليمتلكها، أخذت تكافح لتقاوم سيطرته، لكنها كانت خائرة القوى، تماماً كيديها البيضاوين الفاقدتين لأي عزم. وعندما شعرت بالإنهاك تسربت همهمة صغيرة من بين شفتيها المنفرجتين قليلاً، ثم عادت لتكررها مرة وأخرى مع أنفاسها المتقطعة

- (حرة، حرة، حرة)!!

تلاشت النظرة الخاوية من عينيها، وحلت محلها نظرة قوية ومشرقة، شعرت بنبضها المتتابع يضخ دماءً دافئة في أطرافها، ويمنح الاسترخاء لكل سنتيمتر من جسدها. لم تتوقف لتتساءل ما إذا كان الشيء الذي امتلكها إرادة وحشية أم شيء آخر، كان شعور داخلي يسيطر عليها لتتجاهل التفكير في شيء كهذا.

كانت تعرف أنها ستبكي مجدداً عندما ترى يدي زوجها الكريمتين المرهفتين ملفوفتين برداء الموت، والوجه الذي لم يدخر عنها نظرات الحب وقد كسته الصفرة والجمود. لكنها كانت ترى أبعد من ذلك المشهد، كانت تستشرف موكباً طويلاً من السنوات القادمة لا يشاركها فيها أحد، وهي تفتح ذراعيها واسعاً لتستقبلها. لن تهب حياتها لأحد تعيش لأجله، ستحيا لنفسها ولنفسها فقط. لن يجرؤ أحد على فرض إرادته عليها أو التطفل على خصوصياتها ورغباتها (سواء كان ذلك التطفل بنية حسنة أو سيئة فإنها تراه الآن في لحظة إشراقها هذه جريمة لا تغتفر).

لقد أحبت زوجها بعض الوقت، لكنها في أغلب الوقت لم تكن تفعل. ما الفارق؟ ما الذي يعنيه الحب - ذلك اللغز المستعصي على الحل- حين يمتلك الرجل المرأة امتلاكاً تاماً وقهرياً إلى الأبد؟ كأنها كانت بحاجة لهذه الصدمة كي تستوعب وضعها الذي كان.

- (حرة، حرة الجسد والروح) أخذت تتمتم

كانت أختها (جوزفين) تركع عند باب حجرتها المغلق وشفتاها على ثقب المفتاح تتوسل الدخول

- ((لويس) أرجوكِ افتحي الباب، لا تؤذي نفسكِ، أتوسل إليكِ افتحي الباب)

- (اذهبي أنا لن أؤذي نفسي) ردت عليها.

في الواقع كانت تشعر أنها تشرب إكسير الحياة من خلال النافذة المفتوحة. انطلقت خيالاتها بشغب تمرح في الأيام التي تنتظرها، أيام الربيع، أيام الصيف، كل أنواع الأيام التي ستصبح ملكها. ارتجلت دعاءً قصيراً بأن تكون حياتها أطول وهي التي كانت بالأمس فقط ترتعد من فكرة الحياة الطويلة.

نهضت أخيراً وفتحت الباب لشقيقتها الملحاحة، كانت هناك نظرة انتصار محمومة في عينيها، وفي خطوتها تبختر كأنها آلة النصر ذاتها، احتضنت أختها من وسطها وأخذا ينزلان السلالم حيث ينتظرهما (ريتشارد) في الأسفل.

قام شخص ما بفتح الباب الخارجي مستخدماً المفتاح، كان المقبل هو (ميلارد) زوجها وعليه القليل من وعثاء السفر، حاملاً حقيبته ومظلته في هدوء، لا يظهر عليه أي أثر لحادث سير ولا يبدو حتى أنه سمع بحدوثه. وقف مذهولاً من صراخ (جوزفين) الحاد، ومن مسارعة صديقه (ريتشارد) نحوه ليحجبه عن نظر زوجته لكن يبدو أن (ريتشارد) تأخر كثيراً.
عندما جاء الأطباء لفحصها قالوا إنها ماتت بنوبة قلبية سببها انفعالات الفرح الشديد!!