السبت، 24 ديسمبر 2011
طبيب و عاطل!
أعتقد جازماً أن ملف مشكلات الخدمات الصحية في بلادنا يتضخم بسرعة أكبر مما نتخيل، وأن تلك المشكلات تتداخل وتتعقد لتصبح مثل كرة من خيوط الصوف المتشابكة التي لا يُعرف لها طرف.
والمحزن في الأمر أن ثمن تلك المشكلات فادح ومكلف، وكلما تأخر إصلاحها أصبح ذلك الإصلاح أصعب وأبعد.
لكن الحديث عن الإصلاح هنا يبدو مثالياً أكثر من اللازم، إذا كان أصحاب الشأن في وزارة الصحة لا يرون أن هناك مشكلة من الأساس، وتتوالى تصريحاتهم بأن كل شيء على ما يرام، وأن الخطط الاستراتيجية للوزارة كفيلة بإصلاح كل شيء، وأن المسألة ليست سوى مسألة وقت فقط!.
ولأن الحديث عن الملف الصحي أضخم من أن يحتويه مقال، فسوف أكتفي اليوم بالإشارة إلى عقدة صغيرة من عقد كرة الصوف المرعبة، التي يصر مسؤولو الوزارة على أنها ليست كذلك.
في منتصف عام 2010 نشرت جريدة المدينة تحقيقاً مثيراً بعنوان (سبعون طبيباً عاطلاً في جدة.. أحدهم يعمل سائق ليموزين).
وتناول التقرير معاناة الأطباء من حديثي التخرج – معظمهم أطباء أسنان – الذين لم يجدوا لهم وظائف في مرافق وزارة الصحة في جدة. وكان رد الوزارة حازماً وفورياً بأن اتهمت هؤلاء الأطباء بأنهم يرفضون قبول وظائف أخرى شاغرة خارج مدينة جدة، وأن جميع وظائف مدينة جدة مشغولة بأطباء سعوديين!.
وهذا الإيضاح لا بد أن يعني أن الخدمات الصحية في مدينة جدة قد بلغت تمامها، وأن رفض الوزارة لتوظيف المزيد من الأطباء فيها يعني أن المدينة ليست بحاجة إلى المزيد منهم، لكن هل الوضع كذلك بالفعل؟ إن أي زيارة سريعة لأي مستشفى تخبرك بالعكس تماماً، ونظرة سريعة على قائمة المواعيد في العيادات الخارجية كفيلة بإصابتك بالذهول من طولها وامتدادها بالشهور والسنوات لعدد غير قليل من التخصصات، كما أن الإحصائيات الرسمية الصادرة من وزارة الصحة تدل على خلل كبير في نسبة عدد الأطباء إلى عدد السكان لدينا، ففي حين تبلغ هذه النسبة (16 طبيباً لكل عشرة آلاف ساكن) في السعودية، تملك الأردن 26 ولبنان 33 ومصر 24 طبيباً لكل عشرة آلاف ساكن.
كما أن المعدل السعودي هو الأدنى بين دول الخليج عموماً. (دليل الإحصاء السنوي لمنظمة الصحة العالمية 2010).
كيف يمكن تفسير هذا التناقض؟ كيف تجمع الوزارة بين رفض توظيف الأطباء والاعتراف بالحاجة الماسة لهم؟
تكمن نقطة الخلل الأساسية في أن نظام الموارد البشرية في وزارة الصحة لا يراعي المتطلبات الحقيقية للمجتمع، بل إنه في الحقيقة لا يخضع لسيطرة الوزارة من الأساس، فوزارة الصحة كسائر الوزارات ترتهن فيما تناله من وظائف لوزارتي المالية والخدمة المدنية، لا لما تقرره هي من احتياج فعلي، وبالتالي تخرج كل عام بهوة أكثر اتساعاً من العام الذي سبقه، لأن معدل الزيادة في عدد السكان لا يتناسب مع معدل الزيادة البطيء والبيروقراطي في عدد الوظائف التي تحصل عليها الوزارة، والمشكلة لا تقتصر على الأطباء حديثي التخرج، بل تتجاوزها لتبلغ وظائف الاستشاريين في مختلف التخصصات، وكي تتخيل عزيزي القارئ عمق وفداحة المشكلة سأضرب لك مثلاً بمدينة جدة مدار الحديث، ففي مستشفى العيون الوحيد في المدينة تبلغ قائمة الانتظار للعمليات شهوراً وربما سنوات بدون مبالغة.
وفي نفس الوقت هناك أكثر من طبيب استشاري في ذات المستشفى يعمل على وظيفة اختصاصي، نظراً لعدم توفر وظائف بدرجة استشاري في تخصصات العيون في جدة، والحل الذي تقدمه الوزارة للطبيب المجمد هو أن تعرض عليه الانتقال للعمل خارج جدة، حيث تتوفر وظيفة استشاري!. أي أن الوزارة تطلب من الطبيب الذي يعمل في مدينة يصاب فيها الناس بالعمى نتيجة انتظارهم سنوات لموعد العملية، تطلب منه الخروج من المدينة إذا أراد الحصول على وظيفة استشاري، لأن كل الوظائف مشغولة بأطباء سعوديين! وقس على ذلك التخصصات الأخرى كطب الأسنان وغيرها.
والحل؟ يبدأ الحل أولاً في الاعتراف بالمشكلة بشكل علني، وعدم التحرج من مناقشتها بصوت عالٍ أمام المجتمع، وإشراك أصحاب الشأن في النقاش لا الاكتفاء بلجان الغرف المغلقة وتقبل مناقشة إجراءات جذرية وقاسية لكنها ضرورية لحلحة عقدة كرة الصوف، أما الاكتفاء بامتداح متانة الخيوط وجودتها ولمعانها فلن يزيد المشكلة إلا تعقيداً.
صحيفة الشرق المطبوعة العدد رقم (٢٠) بتاريخ (٢٤-١٢-٢٠١١)
الاثنين، 19 ديسمبر 2011
لماذا أخاف المرض؟
كانت ليلة هادئة من الليالي التي تشعر فيها بالرضا عن الكون، كنا أنا وصديقي قد فرغنا من تناول طعام
العشاء، وجلسنا نشرب الشاي في حديقة منزله الصغيرة، الذي لم ينجز بناؤه بشكل كامل بعد.
داعبت وجوهنا نسمات رقيقة نادرة الوجود إلا في هذا الوقت من العام، كانت من اللحظات النادرة التي تشعر فيها أن الحياة لا يمكن أن تكون أفضل أو أجمل.
ذوّب في فنجانه ملعقة من السكر وتراجع في كرسيه كأنه على وشك البدء في تأليف قصيدة شعرية قبل أن يتمتم: تعرف يا صديقي.. أنا لا أشعر بالأمان!.
لم تكن تلك هي العبارة المتوقعة منه في مثل هذا الجو الشاعري، رفعت حاجبي مندهشاً دون أن أعلق لكنه تابع
تعرف أنني في وضع مالي جيد، مقارنة بمتوسط دخل الناس، ولديّ وظيفة محترمة وعلاقات جيدة ومنزلي على وشك الاكتمال…
قاطعته ساخراً:
– لأجل ذلك يفترض أن تقلق بشدة على مستقبلك..أليس كذلك؟
اعتدل في كرسيه ووضع فنجانه على الطاولة قبل أن يجيبني:
– هذه هي المسألة، تخيل أنني بكل هذه النعم التي حباني بها الله أبتهل إليه كل يوم ألا يمرض أحد والديّ المسنين، وأن يمدهما بالصحة والعافية.
اعتدلت بدوري وقاطعته مجدداً:
– حفظهما الله لك لكن ما دخل ذلك بموضوعنا؟
– هذا هو لب الموضوع (أجابني).. تخيل لا قدر الله لو مرض أحدهما مرضاً من الأمراض التي نسمع عنها.. تخيل فقط السيناريو المرعب الذي يراودني كل ليلة.. ستهرع بوالدك أو والدتك إلى أقرب مستشفى، غالباً ما سيكون تابعاً لوزارة الصحة وستجد (في أفضل سيناريو متخيل) اهتماماً ورعاية جيدين، في قسم الطوارئ ستتم السيطرة على الحالة، ويقوم الأطباء بتنويم الوالد في أحد الأقسام، وبعدها بساعات سيأتيك الطبيب بابتسامة متعاطفة وهو يحمل صورة أشعة أو تقريراً لمختبر، ويشرح لك مدى تعقيد حالة الوالد وحاجته للنقل العاجل إلى مستشفى متخصص لإكمال العلاج، سيقول لك لقد خاطبنا المستشفيات وأرسلنا الفاكسات، لكن الموضوع قد يستغرق وقتاً، لذلك حاول أن تفعل وساطاتك أو أن تنقل الوالد إلى المستشفى الفلاني التابع للقطاع الخاص، لأن لديهم قسماً مؤهلاً للعناية بمثل هذه الحالات.
ثم يربت على ظهرك في تعاطف، ويقول لك كان الله بعونك يا ولدي. تخيل ما الذي بيدك وقتها لتقوله أو تفعله؟ ستجري مجموعة اتصالات تعرف بعدها أن نقل الوالد أصعب مما تتصور، ولن تحتمل أن تراه في حالته الحرجة تلك، لذلك ستتخذ القرار بنقله إلى المستشفى الخاص، طبعاً لا شيء في الدنيا يساوي صحة والديك، لكن راتبك كله لن يكفي ليلتين في العناية المركزة، فضلاً عن الأدوية والفحوصات التي لا تنتهي.. تخيل لو طالت إقامته في المستشفى شهراً.. شهرين.. ثلاثة .. تخيل مبلغ الفاتورة الفلكي. من أين ستدبره؟ كم ستستدين؟ وإلى متى؟ كم من الوقت ستحتمل؟ من أين ستقترض؟ ومن أين ستسدد؟
قلت له لا تكن متشائماً هكذا، الوضع ليس بتلك المأساوية وبالتأكيد ستجد مخرجاً.
أطلق تنهيدة عميقة.. نظر في عيني ثم أردف:
– صدقني لست متشائماً كما تعتقد، لكنني واقعي، وأشاهد ما يجري من حولي كل يوم، ونظرة واحدة على ما تنشره الصحف من حالات إنسانية تستجدي العلاج تخبرك بالوضع الصحي لدينا. كل الحلول التي ستقترحها حلول تعتمد على الفزعة وشهامة المسؤول فلان وعطف المدير فلان، لكن لا نظام رعاية طبية محكماً وحقيقياً يطبق على الجميع يجعلك تنام مرتاح البال.
المرض في بلادي يحتاج الكثير من المال، أو الكثير من النفوذ، أو الكثير من هدر الكرامة، ومن لا يملك أحدها فعليه أن يبتهل إلى الله كل يوم ألا يمرض له عزيز.
كان فنجان الشاي قد برد، وفقدت كل شهية في أن أتناوله، لقد أفسد حواره الليلة تماماً.. ظللت محملاً بهمّ كلماته بعد انصرافي. قد يكون ما قاله سوداوياً ومتشائماً أكثر من الواقع، لكنه جعلني أردد بقلب متوجس اللهم احفظ أحبائي جميعاً وقهم ذل المرض!.
ذوّب في فنجانه ملعقة من السكر وتراجع في كرسيه كأنه على وشك البدء في تأليف قصيدة شعرية قبل أن يتمتم: تعرف يا صديقي.. أنا لا أشعر بالأمان!.
لم تكن تلك هي العبارة المتوقعة منه في مثل هذا الجو الشاعري، رفعت حاجبي مندهشاً دون أن أعلق لكنه تابع
تعرف أنني في وضع مالي جيد، مقارنة بمتوسط دخل الناس، ولديّ وظيفة محترمة وعلاقات جيدة ومنزلي على وشك الاكتمال…
قاطعته ساخراً:
– لأجل ذلك يفترض أن تقلق بشدة على مستقبلك..أليس كذلك؟
اعتدل في كرسيه ووضع فنجانه على الطاولة قبل أن يجيبني:
– هذه هي المسألة، تخيل أنني بكل هذه النعم التي حباني بها الله أبتهل إليه كل يوم ألا يمرض أحد والديّ المسنين، وأن يمدهما بالصحة والعافية.
اعتدلت بدوري وقاطعته مجدداً:
– حفظهما الله لك لكن ما دخل ذلك بموضوعنا؟
– هذا هو لب الموضوع (أجابني).. تخيل لا قدر الله لو مرض أحدهما مرضاً من الأمراض التي نسمع عنها.. تخيل فقط السيناريو المرعب الذي يراودني كل ليلة.. ستهرع بوالدك أو والدتك إلى أقرب مستشفى، غالباً ما سيكون تابعاً لوزارة الصحة وستجد (في أفضل سيناريو متخيل) اهتماماً ورعاية جيدين، في قسم الطوارئ ستتم السيطرة على الحالة، ويقوم الأطباء بتنويم الوالد في أحد الأقسام، وبعدها بساعات سيأتيك الطبيب بابتسامة متعاطفة وهو يحمل صورة أشعة أو تقريراً لمختبر، ويشرح لك مدى تعقيد حالة الوالد وحاجته للنقل العاجل إلى مستشفى متخصص لإكمال العلاج، سيقول لك لقد خاطبنا المستشفيات وأرسلنا الفاكسات، لكن الموضوع قد يستغرق وقتاً، لذلك حاول أن تفعل وساطاتك أو أن تنقل الوالد إلى المستشفى الفلاني التابع للقطاع الخاص، لأن لديهم قسماً مؤهلاً للعناية بمثل هذه الحالات.
ثم يربت على ظهرك في تعاطف، ويقول لك كان الله بعونك يا ولدي. تخيل ما الذي بيدك وقتها لتقوله أو تفعله؟ ستجري مجموعة اتصالات تعرف بعدها أن نقل الوالد أصعب مما تتصور، ولن تحتمل أن تراه في حالته الحرجة تلك، لذلك ستتخذ القرار بنقله إلى المستشفى الخاص، طبعاً لا شيء في الدنيا يساوي صحة والديك، لكن راتبك كله لن يكفي ليلتين في العناية المركزة، فضلاً عن الأدوية والفحوصات التي لا تنتهي.. تخيل لو طالت إقامته في المستشفى شهراً.. شهرين.. ثلاثة .. تخيل مبلغ الفاتورة الفلكي. من أين ستدبره؟ كم ستستدين؟ وإلى متى؟ كم من الوقت ستحتمل؟ من أين ستقترض؟ ومن أين ستسدد؟
قلت له لا تكن متشائماً هكذا، الوضع ليس بتلك المأساوية وبالتأكيد ستجد مخرجاً.
أطلق تنهيدة عميقة.. نظر في عيني ثم أردف:
– صدقني لست متشائماً كما تعتقد، لكنني واقعي، وأشاهد ما يجري من حولي كل يوم، ونظرة واحدة على ما تنشره الصحف من حالات إنسانية تستجدي العلاج تخبرك بالوضع الصحي لدينا. كل الحلول التي ستقترحها حلول تعتمد على الفزعة وشهامة المسؤول فلان وعطف المدير فلان، لكن لا نظام رعاية طبية محكماً وحقيقياً يطبق على الجميع يجعلك تنام مرتاح البال.
المرض في بلادي يحتاج الكثير من المال، أو الكثير من النفوذ، أو الكثير من هدر الكرامة، ومن لا يملك أحدها فعليه أن يبتهل إلى الله كل يوم ألا يمرض له عزيز.
كان فنجان الشاي قد برد، وفقدت كل شهية في أن أتناوله، لقد أفسد حواره الليلة تماماً.. ظللت محملاً بهمّ كلماته بعد انصرافي. قد يكون ما قاله سوداوياً ومتشائماً أكثر من الواقع، لكنه جعلني أردد بقلب متوجس اللهم احفظ أحبائي جميعاً وقهم ذل المرض!.
الأحد، 11 ديسمبر 2011
لا تدقق!
كانت لوحة إعلانية ضخمة على جانب الطريق السريع، بين مكة المكرمة وجدة حملت اسم الشركة بخط كوفي منسق جميل وزخارف إسلامية بارعة الجمال من حولها.
كانت شركة تأمين جديدة في سوق التأمين حديثة العهد ذلك الوقت، تزامن ظهورها مع فرض التأمين الإلزامي على السيارات في المملكة، والجدل الذي دار حينها حول مشروعية التأمين وموقف أهل العلم منه بين محلل ومحرم.
أصبحت شركة التأمين تلك حديث المجالس والمنتديات، فمالكها ينتمي لأسرة عريقة في العلوم الشرعية وظهوره المتتالي في وسائل الإعلام عزز الثقة في منهج الشركة والتزامها بالمعايير الشرعية في التأمين، خصوصاً في مجتمع يتحسس كثيراً تجاه الحلال والحرام في المعاملات المالية.
وسرعان ما حُسم جدل المشروعية والتحليل والتحريم ليصبح جدلاً حول أي الشركات مجاز شرعاً وأيها ليست كذلك، وبالطبع أصبح للشركة عملاء من مختلف الطبقات والمناطق بسرعة لا يحلم بها أي مدير تسويق في العالم.
عملاء يشترون سلعة حديثة عليهم لا يعرفون ما هي بالضبط، لكنهم مضطرون إليها.. يدفعون المال ليحصلوا على ورقة أنيقة مزخرفة تحمل شعار الشركة، ويفترض أن تضمن خدمة التأمين في حال الضرر بصورة مجازة شرعاً.
ربما لا يعرف العملاء كيف، لكنهم يثقون في الأشخاص الذين يديرون الشركة وهذا كافٍ في نظرهم.
لم تمض بضعة أشهر حتى اضطر عدد من مستخدمي التأمين لتقديم وثائق الشركة لإدارة المرور لتغطية تكاليف حوادث سياراتهم، عندها كانت المفاجأة، المرور لا يعترف بتلك الوثيقة.
وما هي إلا أيام حتى تكشفت باقي الفصول المثيرة، الشركة الموحية بالثقة تلاشت كأنها لم تكن. اختفت هي ومكاتبها وموظفوها، ولم يجد الناس من يدلهم على طريقة لاسترداد أموالهم أو مقاضاة الشركة وأخواتها ممن لم يوفين بعهودهن.
ومما زاد حيرتهم أنهم اكتشفوا أنهم يتخبطون في الظلام، فلا نظام واضحاً لحقوق الشركات وواجباتها، ولا جهة مرجعية واضحة للتقاضي، ولا توعية كافية بما ينبغي وما لا ينبغي.
فقط كان شرطي المرور يرد الوثيقة في ضيق ونفاد صبر ليقول لهم إن تلك الشركة غير معترف بها لدينا!.
ولأن الناس طيبون فلم يخطر على بالهم أسئلة من طراز كيف استطاعت هذه الشركات أن تفتح مكاتب وحسابات بنكية وتقبض الأموال وتمارس الدعاية لنشاطها في كل مكان وهي غير معترف بها؟ فقط تقبلت الأمر كقضاء وقدر واحتسبت ولجأت لشركة أخرى يعترف بها المرور، على الرغم من أن بعض المشايخ حرم تعاملاتها!.
ومرت الحادثة في هدوء كأن لم تكن.
الآن وبعد سنوات من تلك الحادثة.
ترتفع لوحة عملاقة في طريق سريع آخر، لكنها كتبت بخط عصري ملون بألوان زاهية هذه المرة.
تدعو الناس للتأمين الصحي لدى شركة تأمين جديدة، يحفزك الإعلان للتأمين، فلا شيء أغلى من صحتك، ولا هم أكبر من هم المرض، ولا أجمل من أن تجد شركة تأمين تعدك بالعلاج في أرقى المستشفيات في البلاد بمجرد شراء وثيقتها الموعودة، ولأن وسائل العصر قد تقدمت، فستجد الإعلانات تحاصرك حتى في جوالك وتعيد في كل مرة العزف على وتر علاج مضمون وراقٍ وبتكاليف ميسرة.
طبعاً سيتحمس البعض للحصول على الخدمة المغرية، وسيتساءل الأذكياء منهم عن مشروع مماثل بشرت به وزارة الصحة في عهد وزيرها السابق ونشرت إعلاناته في كل مكان قبل أن يختفي عن الأنظار تماماً مع الوزير الجديد، ولأنهم طيبون فلن يكترثوا كثيراً عندما لا يجدون إجابة من أحد، فضلاً عن أن يعرفوا إلى أين تسير قاطرة الخدمات الصحية في البلاد وفي أي اتجاه تمضي.
وسيبقى ذات السؤال معلقاً: ترى هل تغير شيء منذ ذلك الوقت؟ هل سيعرف الناس الذين يدفعون أموالهم لشركات التأمين الطبي ما النظام الذي يحميهم؟ وما الجهة المشرفة على هذا القطاع؟ وما جهة التقاضي في حالة الخلاف؟ أم أننا مازلنا شعباً طيباً.. يدفع ويوقع ويخليها على الله.. ويا رجّال لا تدقق؟!.
صحيفة الشرق المطبوعة العدد رقم (٦) بتاريخ (١٠-١٢-٢٠١١)
الخميس، 17 نوفمبر 2011
الاعتذار لصندوق (واصل)
يقبع على باب بيتي صندوق معدني تعيس، قد اعوج ظهره، وتدلت أحشاؤه منذ سنوات، أطالعه في كل يوم أكثر من مرة، يكسوه الغبار حيناً, وتغسله الأمطار حيناً, ويستخدمه المارة لوضع بقايا الخبز الملقاة أرضاً فوقه, إكراماً للنعمة حتى لا تدهس.
ذلك الصندوق الحزين لم يسكن جدار منزلي بإرادته، و لا برغبتي، استيقظ ذات نهار ليجد نفسه مصلوباً على جدار بيتي، ولأجده هناك يطالعني بذات الدهشة التي أطالعه بها، ولأنني مواطن صالح فلم أعترض على وجوده، وإن كنت غير مرحبٍ به ولا أعرف كيف سأستخدمه، وربما لذلك السبب لم أبالِ كثيراً بعد أيام عندما وجدته قد تعرض لهجمة من بلطجي مجهول في حارتنا تركته بلا حول ولا قوة، و ظل الحال بيننا كذلك لسنوات، نظرات باردة متبادلة كل صباح، وتجاهل أكثر برودة في المساء، حتى جاء يوم زرت فيه صديقي الذي يسكن حياً راقياً، فوجدت صندوق (واصل) لديه يتألق لمعاناً ويفيض بهجةً، فسألته عن حال صندوقه السعيد فأخبرني أنه قد فعّل الخدمة، وأن الرسائل تصله إلى باب داره كل يوم، ولولا أنني استوقفته لهمّ بأن ينظم قصيدة شعر في مدح صندوقه المبتهج. وبالفعل لم يتأخر الاتصال، وجاء الموظف الهمام ليصلح الصندوق، ويسلمني المفتاح وبيانات العنوان، شكرته بحرارة وأنا لازلت غير مصدق، ابتسم بثقة، وردد نحن في الخدمة في أي وقت، وكانت تلك هي المرة الأخيرة التي أرى فيها وجهه أو وجه أيٍ من موظفي البريد، فقد تعرض الصندوق لهجمة جديدة بعدها بشهر واحد, وعندما قدمت طلباً لإصلاحه لم يجبني أحد حتى هذا اليوم, ظللت لفترة طويلة مستاءً من هذا الصندوق الكسيح, ومن مستوى الخدمة الهزيل الذي “يفشل” في صناعة صندوق متين قابل للحياة كصندوق صحيفتي المجاور له، وظللت مستاءً من خدمة ذات موقع براق على الإنترنت وفي المطويات لكنها بلا فعالية في الشارع، خدمة لا تصمد إلا في الأحياء الراقية وبين علية القوم وتنهار بمجرد احتكاكها بمن دونهم.
لكنني وفي لحظة تأمل جامحة اكتشفت كم أنا متجن على هذا الصندوق المسكين، وكم أحمله من الأوزار والأحمال ظلماً، بل إنه في الحقيقة نعمة كبرى أرسلها الله لي دون أن أفقه فضلها، فما فعله الصندوق الخجول المؤدب، هو أنه ضحى بنفسه ليعطيني مثالاً حياً على وضع البلد بشكل عام، كان في كل يوم يمنحني إشارة خافته وبليغة في نفس الوقت، لكنني لم ألتقطها للأسف إلا مؤخراً، فالصندوق الشهم يمثل في يوم ماطر قرارات سعودة سوق الخضار الحازمة التي غسلتها أمطار النسيان وفقدت شهامة المسؤول. والصندوق الكسير يمثل قرارات تأنيث المحلات النسائية التي دأبت قبضات متحمسة على تكسيرها في كل مرة. والصندوق الضعيف في الشارع هو مستوى مخرجات التعليم لدينا التي لم تصمد للأسف أمام امتحان البطالة،لكنه يتحول بقدرة قادر إلى منتهى القوة والإنتاجية إذا وجد (جداراً) فخماً يستند إليه!.. والصندوق الذي رُكب ذات يوم أمام بيتي دون علمي ودون رأيي هو مجلس الشورى الذي لا يمثلني حتى الآن، ولا أعرف حتى متى، والصندوق الجريح الذي تنصل منه مرجعه هو حال كل من يلهث خلف سريرٍ أو موعدٍ في مستشفى ولا يجد رداً.. و الصندوق الذي حظي بدعاية باذخة وميزانية ضخمة ثم انتهى محطماً بلا فائدة هو مشروع المستشفى والمدرسة والنفق والمتعثرة جميعاً لسبب لا يمكن معرفته على وجه الدقة، تماماً كما لا أعرف على وجه التحديد لماذا يتحطم صندوق واصل فورَ تركيبه بضربة واحدة، ولا يتأثر صندوق الجريدة الرابض إلى جواره منذ سنوات!!
عزيزي صندوق واصل…تقبل اعتذاري
الخميس، 3 نوفمبر 2011
"حياتي": يالها من حياة!
إسم الكتاب: حياتي
المؤلف: أحمد أمين
الناشر: دار الشروق المصرية
علي أن أعترف بدايةً أنني حين شرعت في قراءة هذا الكتاب لم أكن أعرف من هو أحمد أمين و لم يسبق لي قراءة أي شيء من كتبه، و أن الدافع الوحيد الذي دفعني لقراءة هذا الكتاب هو ما كتبه عنه إبنه د.جلال أمين في كتابيه عن سيرته الذاتية (ماذا علمتني الحياة) و (رحيق العمر) و الذي تعرض فيهما للكثير عن والده و أشار في أكثر من موضع إلى هذا الكتاب بالاقتباس حيناً و بالإيضاح و التحليل أحياناً أخرى. و لقد توجست في بداية مطالعتي للكتاب من تاريخ كتابته القديم و سمعة كاتبه الأزهرية وخلفيته الدينية فتوقعت كتاباً جافاً صعب الأسلوب مليئاً بالتقعر في اللغة و الإطناب في البيان كدأب كتاب ذلك الزمان. لكن مجرد مطالعة الصفحات الأولى كشفت لي كم كنت مخطئاً و بينت لي أنني وقعت على كنز تاريخي نادر. فالكتاب أبعد ما يكون عن الإطناب و التقعر و لغة أحمد أمين أقرب ما تكون إلى لغة عصرية سلسة و انسيابية حتى و إن بدت ثقيلة في بعض المواضع النادرة. لكن أجمل ما يميز الكتاب هو وصفه البانورامي لكل مرحلة من مراحل التغير السريع التي مر بها المجتمع المصري و عاصرها الكاتب منذ كان طفلاً و حتى تقاعده و عينه الدقيقة الحساسة في وصف أحوال الناس و حياتهم اليومية و العلاقات البشرية في الحارة و الكتاب و الأزهر و القصر و النظرة التحليلية العميقة في بعض المواضع لأحداث و تفاعلات حلت بالبلاد و ربطها بالمتغير اليومي في بيت الكاتب إبان طفولته و شبابه. ولعل وصفه لمنزلهم و حارات القاهرة و المدرسة النظامية ثم الأزهرية التي دخلها و علاقته بوالده و علاقة والده بوالدته و اخوته تعد صورة بديعة ونادرة جداً عن المجتمع المصري في تلك الفترة لا تكاد تتخيل وجودها ولم يسبق أن قرأت وصفاً لها بهذا التماسك و هذه الحميمية.
و على الرغم من أن الكتاب عن السيرة الذاتية إلا أنه حافل بإنكار الذات و غارق في النظرة الموضوعية التحليلية للأحداث و التي جعل الكاتب نفسه فيها مراقباً و محللاً و ناقداً لنفسه و للمجتمع دون انحياز للأنا و لا تضخيم للذات بل تُفاجأ أنه يتعاطى مع أحداث جسام مرت به أو شارك في تكوينها بسطور قليلة تكاد تشعرك أن لا فضل له فيها على الإطلاق من شدة تجرده و إنكاره لذاته بل حتى المظالم التي تعرض لها من قبيل حرمانه من لقب الدكتوراه بسبب مواقف حزبية يذكره بتجرد هادئ و بدون انفعال صاخب أو مبالغ فيه. أو ذكرة لقصة تأليفه لنتاجه العظيم فجر الإسلام و ضحى الإسلام و ظهر الإسلام فهو لم يفرد لها فصلاً منفرداً ولا حتى صفحات مستقلة بل ذكر عرضاً قصة تشكل الفكرة في ذهنة ثم في سطور قليلة منهجه الذي اتبعه في الكتابة و عرج بحياء شديد في عبارة واحدة على ( القبول الذي حظيت به السلسلة) هكذا بلا تفاخر ولا تباه رغم الضجة الكبيرة و ردود الفعل و الحفاوة الواسعة التي استقبل بها الناس تلك السلسلة من المؤلفات و النقاش الذي دار حولها.
ولعل أجمل فصول الكتاب هي فصوله الأخيرة التي أجمل فيها الكاتب رأيه في نفسه و شخصيته و حياته فكتب صفحات بديعة هي مزيج من الأدب و التحليل النفسي و درس عميق في التواضع و إنكار الذات مقترناً في نفس الوقت بالثقة بالنفس و الإعتداد بالرأي و الاستعداد للقتال في سبيله متى ما رآه حقاً. و الكتاب مليء بالحكم و العبر المنثورة في صفحاته و قصص الناس و الأحداث في تلك الفترة الزاخرة من عمر مصر. و ربما يعاب على الكتاب تشتت بعض فصوله التي تحدث عن رحلات المؤلف لخارج البلاد و وصفه لتلك البلدان و الذي جاء في بعضها قوياً و عميقاً وفي البعض الآخر سطحياً و بلا إضافة حقيقية للكتاب.
عموماً. لن تستطيع بعد قرأة كتاب(حياتي) إلا أن تطلق تنهيدة عميقة و تتحسر على رحيل جيل العمالقة الأوفياء للعلم و الإبداع في صمت و تجرد و تقول رحمك الله يا أحمد أمين
الجمعة، 21 أكتوبر 2011
لماذا أفعل ذلك يا جدتي؟
لا أذكر كم كان عمري وقتها بالتحديد، بإمكاني أن أخمن لكنني لست متحمساً لأفعل، رغم أنني أتذكر عمر أخي الأصغر بوضوح، كان ضئيل الحجم و قصيراً لا يتجاوز الثامنة من العمر.. أو ربما السابعة. كان الليل يوشك على الانتصاف ومنزل جدتي مضاء بالكامل، كل حجرات الدار مفتوحة تغص بالزائرين و بعض من فاضت بهم الدار افترشوا الارض المقابلة للمنزل وجلسوا في سكون. كان من الممكن للمنظر أن يبعث البهجة في نفوسنا كأطفال، فوجودنا في بيت جدتي وحده كفيل بخيالات كثيرة عن المرح القادم و الحلوى المخبأة في دولاب المطبخ و النقود المطوية بحرص في حقيبتها و التي تكتسي برائحة الفوفل و اللبان والتي تفوح عندما نتشممها في سعادة.
كل شيء كان من الممكن أن يوحي بالبهجة مع الجموع الكثيرة التي ملأت البيت و الوجوه الودودة التي تبتسم في وجهنا و تربت على رؤسنا و تمنحنا بعضاً من المال أيضاً. لكنها اليوم لا تفعل!
إنهم يربتون على رأسي ورأس أخي اليوم بحنان أكبر لكن بوجوه متجهمة خالية من الابتسامة يتمتمون بكلام مبهم عن الله الذي سيتولانا ثم يشيحون بوجوههم.
أنا أعرف ما يعنون و أعتقد أن أخي يفهم قصدهم كذلك، إنهم يعنون أبي الراقد في حجرة الضيوف منذ العصر. لقد جاؤوا به من المستشفى و مددوه هناك.. عندما دخلت لرؤيته وسط نحيبهم وجدته نائماً في سكينة، عيناه مغمضتان في استسلام، و ملامحه تعطي انطباعاً بالراحة كأنه يقضي قيلولته بعد عودته من عمل شاق، قبلت جبهته فأحسست ببرودة جسده واستغربت من القطن و الشاش الذي لف حول رأسه.
كنت كثيراً ما أتباهى أمام أخي بأنني الكبير و بأنني أفهم أمور الكبار أكثر منه.. لكنني بدوت في تلك اللحظة عاجزاً عن الفهم.. كان الحدث أكبر بكثير من أن أستوعبه بمشاعري كان عليه أن يتكرر بعد ذلك في وجداني ملايين المرات لأستوعب فداحته، لذلك لم تستجب مدامعي بشكل كاف للمفاجأة. صحيح أنني بكيت كثيراً عند رأس أبي النائم، و أن شخصاً ما ناولني مصحفاً وطلب مني قراءة القرآن عليه بدلاً من البكاء.. أذكر أنني ظللت أقرأ وسط دموعي و دموع الآخرين من حولي لكن عقلي لا زال ينكر ماحدث، لا بد أن تأتي ساعة و ينفض السامر و نعود إلى منزلنا البعيد، لقد اشتقت لحجرتي و سريري اشتقت لدراجتي و كرتي. لابد ان يتنتهي هذه الفوضى بطريقة ما و نعود إلى منزلنا.
سحبتني يد مشفقة إلى خارج الحجرة و وجدت نفسي في الشارع مع أخي و عدد من الصبية من أبناء الأقارب و الجيران الكل ساهر رغم تأخر الوقت انتظاراً للذهاب إلى الحرم لأداء الصلاة و الدفن.
سرعان ما تجمع حولنا الصبية يبدون تأثرهم و تعاطفهم كان بعضهم يحدق في الأرض و يتمتم "الله يرحمة"
الباقون اكتفوا بالنظرات الشاردة. ولأننا أطفال لم نستطع الاحتفاظ بجو الحزن طويلاً، فسرعان ما ابتعدنا عن أنظار الرجال المتجمهرين في الشارع و أخذنا في اللعب.. بدأنا نركل علبه مشروبات غازية باستحياء ثم دبت فينا الحماسة فأخذنا نركض خلفها في خطوات أوسع ثم بدأت أصواتنا تعلو شيئاً فشيئاً حتى اندمجنا تماماً في المباراة. كانت مباراة غريبة بعض الشيء فأنا لا أشعر بالحزن بقدر ما أشعر بعوارض خطر ما قادم، خطر عاتٍ و مدمر لكنني عاجز عن تفاديه كنت أشعر أنني أطارد العلبة البرتقالية وسط الشارع و شاحنة كبيرة قادمة من بعيد توشك أن تدهسني، لكنني لا أفكر في الابتعاد و أصر بحماسة غريبة على مطاردة العلبة، أعرف أنني سأموت و سأتفتت إلى قطع صغيرة و ربما سأمر بألم بشع لا يطاق لكنني عاجز عن الابتعاد، عاجز عن إيقاف المطاردة بل ربما و بشكل غامض تمنيت أن تكون هناك شاحنة حقيقية و أن تدهسني بالفعل ربما كنت سأتخلص من ذلك الثقل الذي أحاط بي.
بعد جولة قصيرة من الركض كنا على أعتاب المتجر العملاق الذي لا يغلق أبوابه أبداً و كانت زيارته في الأيام الخوالي إحدى المتع التي نجنيها من زيارة جدتي كان منظر بوابته الفخمة المضيئة و الرفوف الممتدة بلا نهاية إلى الداخل و البضائع الزاهية الألوان فوقها كل ذلك كان انتهاكاً صارخاً لحزني الوليد.. قدم عملاقة تدهس الرضيع الصغير بلا رحمة و لا أحد يلحظ صرخاته المكتومة. استغرق الامر لحظات قصيرة لكنها موجعة حتى صمت الحزن الوليد و قبضت يد خفية عملاقة على معصمي و قادتني إلى الداخل.
في الداخل كان كل شيء يستفز الألم مجدداً الثلاجة الكبيرة بالمشروبات الباردة التي تستعرض اسقامة قوامها في فخر. الثلاجة الأرضية و أقماع الايسكريم المتلاصقة ..الرفوف الحمراء و الخضراء و الزرقاء و أطنان الحلويات بقراطيسها الزاهية. كانت تلك المباهج أكبر من احتمالي حتى لو لم استوعبها بشكل واضح..تراجعت عن ذلك العرض المبتذل و سبقت البقية الى باب الخروج قابلت أخي الأصغر وهو يهم بدفع ثمن حلوى حامضة يحبها كثيراً التقت عينانا بنظرة محملة بالإثم..تمتم بصوت منكسر "بابا مات" هززت رأسي موافقاً و أشرت له بيدي كي يتم الشراء مددت يدي الى الحامل القريب و التقطت النسخة المصرية من مجلة ميكي. لست أدري حتى اليوم لم فعلت ما فعلت ترى أكانت رغبة في مشاركة أخي ذلك الشعور بالإثم بشكل عملي؟ أم تصرفاً لا شعورياً للهروب من الواقع.
.........
.........
كانت ليلة طويلة تلك أطول كثيراً من قدرتنا على السهر.. لذلك كانت افكارنا مشوشة عندما أيقظونا على عجل للذهاب .. تولت خالتي مساعدتي على تغيير ملابسي و ارتداء الثوب الأبيض، كنت أحتفظ بالمجلة مطوية بين ثيابي لذلك اعرضت عنها و القيت المجلة خلف دولاب قريب بسرعة على أمل أن لا تلاحظني ربما لاحظت ذلك لكنها لم تعلق و عندما فرغت مني و التفتت الى أخي لتنزع ملابسه وجدته يدس في كفي خلسة قرطاس الحلوى و يسحب يده سريعاً قبل أن تلاحظ خالتي.
.....
.......
مابقي من الرحلة ظل حتى اليوم فوق قدرتي على الاستيعاب استعيده في كل يوم عشرات المرات وكأنه حزن طازج لا يندمل، يتوارى قليلاً خلف حدث صغير عابر و يوهمني بالنسيان لكنه يعود ليتفجر فجأة كمئات البراكين الثائرة في قلب جبل جليدي.. كل دقيقة من المشهد تعاد بكامل تفاصلها من مختلف الزوايا كأنها عملية مونتاج لفلم صوره مخرج بارع لا يرغب في فقد أي من لقطاته .. الظلام الذي غمر الشارع و الجثمان الذي يركب الاسعاف و الصوت الحاد الذي يهتف وحدوووووووه والهمهات الخافته بـ لا إله إلا الله.. صراخ النسوة و نحيبهم و إطلالة جدتي من خلف الباب تراقبنا و نحن نبتعد بالجثمان. الشيخ بن حميد و هو يصلي على أبي و شعوري نحوه بالامتنان لأنه أطال الصلاة خصوصاً بعد التكبيرة الثالثة. الركض نحو المقبرة والنعش الذي يحمل أبي يمضي سريعاً و أنفاسي الصغيرة تتهدج عاجزة عن اللحاق بالناس أرجوك يا أبي لا تسرع و انتظرني قليلاً كما كنت تفعل دائماً. اختراق السوق المسقوف و مبنى البريد و حلويات ابو نار كل تلك المشاهد كانت تطبع في شريط ذكرياتي للمرة الأولى لتبقى إلى الأبد .. القبر المفتوح و العامل الاسيوي الذي يرتدي الإزار و يقف مفرجا بين ساقيه على حافتي القبر..الزحام الشديد و أحدهم يسأل عن البرسيم و الورد..النعش يقترب من الفتحة و يد حنونة تجذبني بعيداً إلى ما خلف الحشود لكنني أسمع الحوار الكئيب عن إنزال الجثمان و توجيهه نحو القبلة و وحدووووه هادئة و أقل حدة هذه المرة... قبلات و دموع وشمس بدأت ترسل شيئاً من تعاطفها للصبي الغافل..كان المشهد كله أشبه بجرعة من السم البطيء ..البطيء جداً و الذي يتغلغل في الخلايا خلية خلية حتى ينشر الألم .. ولا زال يفعل ذلك كل يوم و على مدى السنوات.. تقول جدتي بأننا قد كبرنا و أصبحنا رجالاً و تجاوزنا سن اليتم.. تقول بأننا نشأنا أفضل من كثير من الأولاد الذين لم يفقدوا آباءهم..لكن جدتي لا تخبرني لماذا رغم الشيب الذي احتل رأسي أشعر بالخوف من المشي في شارع غزة و لماذا أشعر انني طفل صغير تائه كلما دخلت باب المعلاه ولا تخبرني لماذا امتنع أخي عن تناول الحلوى الحامضة التي يحبها منذ ذلك اليوم .. ولا لماذا أشعر برغبة حارقة في البكاء كلما شاهدت النسخة المصرية من مجلة ميكي معروضة في أي مكان....ترى لماذا أفعل ذلك يا جدتي؟
كل شيء كان من الممكن أن يوحي بالبهجة مع الجموع الكثيرة التي ملأت البيت و الوجوه الودودة التي تبتسم في وجهنا و تربت على رؤسنا و تمنحنا بعضاً من المال أيضاً. لكنها اليوم لا تفعل!
إنهم يربتون على رأسي ورأس أخي اليوم بحنان أكبر لكن بوجوه متجهمة خالية من الابتسامة يتمتمون بكلام مبهم عن الله الذي سيتولانا ثم يشيحون بوجوههم.
أنا أعرف ما يعنون و أعتقد أن أخي يفهم قصدهم كذلك، إنهم يعنون أبي الراقد في حجرة الضيوف منذ العصر. لقد جاؤوا به من المستشفى و مددوه هناك.. عندما دخلت لرؤيته وسط نحيبهم وجدته نائماً في سكينة، عيناه مغمضتان في استسلام، و ملامحه تعطي انطباعاً بالراحة كأنه يقضي قيلولته بعد عودته من عمل شاق، قبلت جبهته فأحسست ببرودة جسده واستغربت من القطن و الشاش الذي لف حول رأسه.
كنت كثيراً ما أتباهى أمام أخي بأنني الكبير و بأنني أفهم أمور الكبار أكثر منه.. لكنني بدوت في تلك اللحظة عاجزاً عن الفهم.. كان الحدث أكبر بكثير من أن أستوعبه بمشاعري كان عليه أن يتكرر بعد ذلك في وجداني ملايين المرات لأستوعب فداحته، لذلك لم تستجب مدامعي بشكل كاف للمفاجأة. صحيح أنني بكيت كثيراً عند رأس أبي النائم، و أن شخصاً ما ناولني مصحفاً وطلب مني قراءة القرآن عليه بدلاً من البكاء.. أذكر أنني ظللت أقرأ وسط دموعي و دموع الآخرين من حولي لكن عقلي لا زال ينكر ماحدث، لا بد أن تأتي ساعة و ينفض السامر و نعود إلى منزلنا البعيد، لقد اشتقت لحجرتي و سريري اشتقت لدراجتي و كرتي. لابد ان يتنتهي هذه الفوضى بطريقة ما و نعود إلى منزلنا.
سحبتني يد مشفقة إلى خارج الحجرة و وجدت نفسي في الشارع مع أخي و عدد من الصبية من أبناء الأقارب و الجيران الكل ساهر رغم تأخر الوقت انتظاراً للذهاب إلى الحرم لأداء الصلاة و الدفن.
سرعان ما تجمع حولنا الصبية يبدون تأثرهم و تعاطفهم كان بعضهم يحدق في الأرض و يتمتم "الله يرحمة"
الباقون اكتفوا بالنظرات الشاردة. ولأننا أطفال لم نستطع الاحتفاظ بجو الحزن طويلاً، فسرعان ما ابتعدنا عن أنظار الرجال المتجمهرين في الشارع و أخذنا في اللعب.. بدأنا نركل علبه مشروبات غازية باستحياء ثم دبت فينا الحماسة فأخذنا نركض خلفها في خطوات أوسع ثم بدأت أصواتنا تعلو شيئاً فشيئاً حتى اندمجنا تماماً في المباراة. كانت مباراة غريبة بعض الشيء فأنا لا أشعر بالحزن بقدر ما أشعر بعوارض خطر ما قادم، خطر عاتٍ و مدمر لكنني عاجز عن تفاديه كنت أشعر أنني أطارد العلبة البرتقالية وسط الشارع و شاحنة كبيرة قادمة من بعيد توشك أن تدهسني، لكنني لا أفكر في الابتعاد و أصر بحماسة غريبة على مطاردة العلبة، أعرف أنني سأموت و سأتفتت إلى قطع صغيرة و ربما سأمر بألم بشع لا يطاق لكنني عاجز عن الابتعاد، عاجز عن إيقاف المطاردة بل ربما و بشكل غامض تمنيت أن تكون هناك شاحنة حقيقية و أن تدهسني بالفعل ربما كنت سأتخلص من ذلك الثقل الذي أحاط بي.
بعد جولة قصيرة من الركض كنا على أعتاب المتجر العملاق الذي لا يغلق أبوابه أبداً و كانت زيارته في الأيام الخوالي إحدى المتع التي نجنيها من زيارة جدتي كان منظر بوابته الفخمة المضيئة و الرفوف الممتدة بلا نهاية إلى الداخل و البضائع الزاهية الألوان فوقها كل ذلك كان انتهاكاً صارخاً لحزني الوليد.. قدم عملاقة تدهس الرضيع الصغير بلا رحمة و لا أحد يلحظ صرخاته المكتومة. استغرق الامر لحظات قصيرة لكنها موجعة حتى صمت الحزن الوليد و قبضت يد خفية عملاقة على معصمي و قادتني إلى الداخل.
في الداخل كان كل شيء يستفز الألم مجدداً الثلاجة الكبيرة بالمشروبات الباردة التي تستعرض اسقامة قوامها في فخر. الثلاجة الأرضية و أقماع الايسكريم المتلاصقة ..الرفوف الحمراء و الخضراء و الزرقاء و أطنان الحلويات بقراطيسها الزاهية. كانت تلك المباهج أكبر من احتمالي حتى لو لم استوعبها بشكل واضح..تراجعت عن ذلك العرض المبتذل و سبقت البقية الى باب الخروج قابلت أخي الأصغر وهو يهم بدفع ثمن حلوى حامضة يحبها كثيراً التقت عينانا بنظرة محملة بالإثم..تمتم بصوت منكسر "بابا مات" هززت رأسي موافقاً و أشرت له بيدي كي يتم الشراء مددت يدي الى الحامل القريب و التقطت النسخة المصرية من مجلة ميكي. لست أدري حتى اليوم لم فعلت ما فعلت ترى أكانت رغبة في مشاركة أخي ذلك الشعور بالإثم بشكل عملي؟ أم تصرفاً لا شعورياً للهروب من الواقع.
.........
.........
كانت ليلة طويلة تلك أطول كثيراً من قدرتنا على السهر.. لذلك كانت افكارنا مشوشة عندما أيقظونا على عجل للذهاب .. تولت خالتي مساعدتي على تغيير ملابسي و ارتداء الثوب الأبيض، كنت أحتفظ بالمجلة مطوية بين ثيابي لذلك اعرضت عنها و القيت المجلة خلف دولاب قريب بسرعة على أمل أن لا تلاحظني ربما لاحظت ذلك لكنها لم تعلق و عندما فرغت مني و التفتت الى أخي لتنزع ملابسه وجدته يدس في كفي خلسة قرطاس الحلوى و يسحب يده سريعاً قبل أن تلاحظ خالتي.
.....
.......
مابقي من الرحلة ظل حتى اليوم فوق قدرتي على الاستيعاب استعيده في كل يوم عشرات المرات وكأنه حزن طازج لا يندمل، يتوارى قليلاً خلف حدث صغير عابر و يوهمني بالنسيان لكنه يعود ليتفجر فجأة كمئات البراكين الثائرة في قلب جبل جليدي.. كل دقيقة من المشهد تعاد بكامل تفاصلها من مختلف الزوايا كأنها عملية مونتاج لفلم صوره مخرج بارع لا يرغب في فقد أي من لقطاته .. الظلام الذي غمر الشارع و الجثمان الذي يركب الاسعاف و الصوت الحاد الذي يهتف وحدوووووووه والهمهات الخافته بـ لا إله إلا الله.. صراخ النسوة و نحيبهم و إطلالة جدتي من خلف الباب تراقبنا و نحن نبتعد بالجثمان. الشيخ بن حميد و هو يصلي على أبي و شعوري نحوه بالامتنان لأنه أطال الصلاة خصوصاً بعد التكبيرة الثالثة. الركض نحو المقبرة والنعش الذي يحمل أبي يمضي سريعاً و أنفاسي الصغيرة تتهدج عاجزة عن اللحاق بالناس أرجوك يا أبي لا تسرع و انتظرني قليلاً كما كنت تفعل دائماً. اختراق السوق المسقوف و مبنى البريد و حلويات ابو نار كل تلك المشاهد كانت تطبع في شريط ذكرياتي للمرة الأولى لتبقى إلى الأبد .. القبر المفتوح و العامل الاسيوي الذي يرتدي الإزار و يقف مفرجا بين ساقيه على حافتي القبر..الزحام الشديد و أحدهم يسأل عن البرسيم و الورد..النعش يقترب من الفتحة و يد حنونة تجذبني بعيداً إلى ما خلف الحشود لكنني أسمع الحوار الكئيب عن إنزال الجثمان و توجيهه نحو القبلة و وحدووووه هادئة و أقل حدة هذه المرة... قبلات و دموع وشمس بدأت ترسل شيئاً من تعاطفها للصبي الغافل..كان المشهد كله أشبه بجرعة من السم البطيء ..البطيء جداً و الذي يتغلغل في الخلايا خلية خلية حتى ينشر الألم .. ولا زال يفعل ذلك كل يوم و على مدى السنوات.. تقول جدتي بأننا قد كبرنا و أصبحنا رجالاً و تجاوزنا سن اليتم.. تقول بأننا نشأنا أفضل من كثير من الأولاد الذين لم يفقدوا آباءهم..لكن جدتي لا تخبرني لماذا رغم الشيب الذي احتل رأسي أشعر بالخوف من المشي في شارع غزة و لماذا أشعر انني طفل صغير تائه كلما دخلت باب المعلاه ولا تخبرني لماذا امتنع أخي عن تناول الحلوى الحامضة التي يحبها منذ ذلك اليوم .. ولا لماذا أشعر برغبة حارقة في البكاء كلما شاهدت النسخة المصرية من مجلة ميكي معروضة في أي مكان....ترى لماذا أفعل ذلك يا جدتي؟
الثلاثاء، 27 سبتمبر 2011
تفكيك (هاوس)..أو العودة الماكرة لصاحب الغليون!
كنت واثقاً أنك ستقع في حب هذه الداراما من الدقائق الأولى. هاجس خفي أخبرني بذلك...إنها المزيج المفضل لديك و الذي يثير مكامن النشوة في روحك، تماماً كما تتذوق عصيراً ممزوجاً لا تعرف اسمه لكنك تدرك أنك ستحبه منذ الرشفة الأولى.. شيء ما مألوف و لذيذ ضمن مكوناته يجعلك منجذباً دائماً نحو الرشفة التالية.
بعدها تأتي العقلانية التي تجعلك تحلل مكوناته، هل كانت النكهة الحامضة برتقالاً أم ليموناً، و ذلك الطعم الحلو اللاذع بعض الشيء ربما كان التوت البري أو الفراولة و ماذا عن القوام الكثيف ربما هو الموز..لكنك تشعر برائحة المانجو كذلك..ربما؟ لم لا!.
كذلك كان هاوس.. المسلسل الأمريكي الذي يندرج تحت قائمة الدراما الطبية و التي بدأها المسلسل الذائع الصيت ER أو غرفة الطوارئ منذ عقد و نصف من السنين و توالت المسلسلات الطبية من بعده حتى صار المشاهد الأمريكي يعرف تفاصيل غرف العمليات أكثر مما يعرف حجرات منزله!و يفهم في الإنعاش الرئوي و الصدمات الكهربائية أكثر مما يعرف عن أنظمة شركته التي يعمل فيها، لكن ثمة شيء مخادع في مسلسل هاوس، فهو على الرغم من كونه الأكثر إخلاصاً لتصنيفه كدراما طبية و على الرغم من أن الحدث الرئيسي في كل حلقاته معضلة طبية تستعصي على التشخيص و العلاج و تدور كل المشاهد حول فك طلاسمها و التفاعل مع تطوراتها و مضاعفاتها إلا أن ذلك ليس مصدر الجاذبية الفاتنة للدراما..ثمة نكهة حريفة و حاذقة لم أستطع تمييز مصدرها في البداية، نكهة تذوقتها و استمتعت بها كثيراً من قبل لكنني لا أتذكر متى و أين!
شيء ما يدور حول شخصية البطل ذاته..شخصية دكتور هاوس، الخليط المعقد من العبقرية و التمرد و العذاب النفسي، الرجل الوسيم الذي يرفض ارتداء المعطف الأبيض و يعاني من عرج بيّن يجبره على السير مستنداً إلى عصاه طوال الوقت، حاذق ذكي قوي الملاحظة، لكنه وقح و متعجرف و لا يتورع عن إبداء امتعاضه من غباء الآخرين و جهلهم طوال الوقت، يجاهر بعنصريته و احتقار زملائه و ميله للهو ..يتعاطى المسكنات طوال الوقت لتخفيف ألم ساقه لم يلبث أن أدمن على تعاطيها، يتجنب التواصل مع الآخرين قدر المستطاع يرقب مرضاه عن بعد و يستخدم فريقه الصغير في معاينة المرضى و إجراء الفحوصات التي يطلبها، لا يتورع عن طلب أنواع غريبة من الفحوصات كالتسلل إلى منازل المرضى و تفتيش حاجياتهم بحثاً عما يحتمل أن يكون سبباً في علتهم، و طبعاً يفعل ذلك سراً لأنه لا يثق في كلام مرضاه و يعتقد أن كل الناس تكذب كل الوقت و أنهم يقولون الصدق في حالات استثنائية لا يعتد بها، صديقه الوحيد الذي يثق به هو طبيب الأورام الوقور المهذب د. ويلسون و الذي يكاد يكون النسخة المناقضة لهاوس في كل شيء تقريباً ما عدا البراعة في العمل و علاقة الصداقة القوية بينهما.
تبدأ معظم حلقات المسلسل بذات السيناريو تقريباً، منظر عام لأشخاص عاديين في نشاط عادي، احتفالي في أكثر الأوقات ثم يحدث عارض صحي غير متوقع لأحدهم، إغماء، نزيف ،هلاوس أو نوبات صرعية أو أي شيء آخر يستدعي نقل المصاب إلى المستشفى لتبدأ بعدها أحداث الحلقة، غالباً ما يفشل الأطباء في تحديد سبب الأعراض التي أصابت المريض لغموضها أو تناقضها، و لا بد أن تزداد الحالة سوءً بعد دخولها المستشفى إما لتأخر الأطباء في تحديد المشكلة أو لشروعهم في علاج خاطئ زاد من تعقيدها، هنا تزداد سخونة الوقائع و تجد د. هاوس يدور حول نفسه كالنحلة يكتب و يشطب سطوراً كثيرة فوق سبورته البيضاء و عندما ييأس يرسل فريقه لعمل المزيد من الفحوصات أو للتسلل لمسكن المريض أو حتى للبحث عن أحد أقاربه و يجلس منهكاً يحدق في الجدار أو يلعب بعكازه حتى قبل نهاية الحلقة بدقائق حيث تكون الأمور قد تأزمت لأبعد حد و لم تفلح كل المحاولات السابقة إلا في تعقيد مشكلة المريض أكثر. هنا تأتي لمحة العبقرية الغامضة حيث تتراص قطع الصورة المتاثرة إلى جوار بعضها البعض لتصنع صورة منطقية. هنا يقفز هاوس ليتجه لغرفة المريض ربما لأول مرة منذ بدء الحلقة و في أحيان كثيرة يسرع لغرفة العمليات لإيقاف جراحة خطرة على وشك أن تجرى للمريض..و مشهده الاستعراضي المفضل هو عندما يقتحم بعكازه و سترته الأنيقة غرفة العمليات المعقمة ليطلب من الجراحين التوقف عن شق جسد المريض و يخبرهم بفخر مستفز بالحل الذي وجده و الذي غالباً ما يكون مرضاً نادراً جداً لم يفكر أحد في إحتمالية إصابة المريض به قبله!
حسناً..ألا يذكرك د. هاوس بشخص من عالم الخيال كنت تعرفه من قبل؟
تعال لننحي جانباً الغلاف الطبي المخادع قليلاً..انس المستشفى و المرضى و اللغز الطبي..فقط تذكر أن لدينا معضلة لا يستطيع أحد حلها، وهناك شخص واحد حاد الذكاء متعجرف قليلاً لكنه يستخدم حواسه و ملاحظاته بطريقة مذهلة لحل المعضلة، رجل يكرهه منافسوه لكنهم يلجأون إليه لأنه بارع..رجل لديه صديق واحد يفهمه و يتقبله رغم طباعه السيئة..رجل و ياللمصادفة لا يخلو اسمه من جناس لفظي مع اسم هاوس ...شخصيه خيالية لا تمارس الطب لكن مبتكرها طبيب!
هل عرفته؟ إن كنت عرفته فبإمكانك أن تكمل الاستمتاع بكوب العصير.. يمكنك أن تسترخي في مقعدك و تستحلب بقايا الطعم العالق في لسانك و تقول في ثقة...إنها نكهة هولمز...شيرلوك هولمز!
أجل إنه هو هولمز. هاوس ليس سوى النموذج العصري لشيرلوك هولمز، نموذج متنكر في ثياب طبيب لا أكثر، نفس سمات الشخصية الكلاسيكية للمخبر الأسطورة بعدأن تنكرت في ثياب القرن الحادي و العشرين، لو كنت قد قرأت شيئاً من تراث هولمز لعرفت مدى فخره بنفسه و اعتداده بقدراته و أناقته و احتقاره لمفتشي سكوتلانديارد تماماً مثلما يفعل هاوس، هاوس الذي لا يثق في كلام المرضى مثلما لا يثق هولمز في كلام عملائه حتى يحل لغز الجريمة، هولمز الذي يرفض الإيمان بالخرافات و الأشباح يشبه هاوس الذي تمادى في هذا العصر ليصبح ملحداً لا يثق في معجزات الرب، لكنه يثق إلى حد ما في صديقه د. ويلسون رغم اعتقاده بأن ذكاءه محدود لكنه يستلطفه، هل هي مصادفة أن الصديق الوحيد لشيرلوك هولمز أسمه د. واطسون؟ هل هناك تشابه أسماء هنا؟
هل تريد المزيد من المقابلات؟ إليك واحدة أخيرة..هاوس مدمن لنوع قوي من المسكنات سبب له عدة مشاكل في المسلسل..و د.واطسون يروي عن صديقه هولمز أنه كان يحقن نفسه بالكوكاين عندما يصيبه الإحباط من الفراغ و قلة النشاط الذهني!
إذا كنت من الذين افتتنوا بشيرلوك هولمز فأنصحك بشدة بمشاهدة الأداء العبقري للمثل هيو لوري الذي يقوم بأداء دور هاوس فهو في نظري أفضل من نقل شخصية هولمز إلى الشاشة بتمكن و اقتدار حتى لو ادعى أنه طبيب أمريكي في القرن الحادي و العشرين.
أما إن كنت من الأغلبية التي شاهدت المسلسل و لم تقرأ عن شيرلوك هولمز من قبل وليست لديك الحماسة لتفعل فأنصحك بمشاهدة فيلم شيرلوك هولمز للمخرج جاي ريتشي لترى مقدار التشابه الغريب بينهما.
و في كلا الحالتين أرجوك لا تنس العبقري الأول الذي صنع المزيج البديع من المتعة و الإبهار الذي لازال الجميع يغرف منه إلى الآن!
بعدها تأتي العقلانية التي تجعلك تحلل مكوناته، هل كانت النكهة الحامضة برتقالاً أم ليموناً، و ذلك الطعم الحلو اللاذع بعض الشيء ربما كان التوت البري أو الفراولة و ماذا عن القوام الكثيف ربما هو الموز..لكنك تشعر برائحة المانجو كذلك..ربما؟ لم لا!.
كذلك كان هاوس.. المسلسل الأمريكي الذي يندرج تحت قائمة الدراما الطبية و التي بدأها المسلسل الذائع الصيت ER أو غرفة الطوارئ منذ عقد و نصف من السنين و توالت المسلسلات الطبية من بعده حتى صار المشاهد الأمريكي يعرف تفاصيل غرف العمليات أكثر مما يعرف حجرات منزله!و يفهم في الإنعاش الرئوي و الصدمات الكهربائية أكثر مما يعرف عن أنظمة شركته التي يعمل فيها، لكن ثمة شيء مخادع في مسلسل هاوس، فهو على الرغم من كونه الأكثر إخلاصاً لتصنيفه كدراما طبية و على الرغم من أن الحدث الرئيسي في كل حلقاته معضلة طبية تستعصي على التشخيص و العلاج و تدور كل المشاهد حول فك طلاسمها و التفاعل مع تطوراتها و مضاعفاتها إلا أن ذلك ليس مصدر الجاذبية الفاتنة للدراما..ثمة نكهة حريفة و حاذقة لم أستطع تمييز مصدرها في البداية، نكهة تذوقتها و استمتعت بها كثيراً من قبل لكنني لا أتذكر متى و أين!
شيء ما يدور حول شخصية البطل ذاته..شخصية دكتور هاوس، الخليط المعقد من العبقرية و التمرد و العذاب النفسي، الرجل الوسيم الذي يرفض ارتداء المعطف الأبيض و يعاني من عرج بيّن يجبره على السير مستنداً إلى عصاه طوال الوقت، حاذق ذكي قوي الملاحظة، لكنه وقح و متعجرف و لا يتورع عن إبداء امتعاضه من غباء الآخرين و جهلهم طوال الوقت، يجاهر بعنصريته و احتقار زملائه و ميله للهو ..يتعاطى المسكنات طوال الوقت لتخفيف ألم ساقه لم يلبث أن أدمن على تعاطيها، يتجنب التواصل مع الآخرين قدر المستطاع يرقب مرضاه عن بعد و يستخدم فريقه الصغير في معاينة المرضى و إجراء الفحوصات التي يطلبها، لا يتورع عن طلب أنواع غريبة من الفحوصات كالتسلل إلى منازل المرضى و تفتيش حاجياتهم بحثاً عما يحتمل أن يكون سبباً في علتهم، و طبعاً يفعل ذلك سراً لأنه لا يثق في كلام مرضاه و يعتقد أن كل الناس تكذب كل الوقت و أنهم يقولون الصدق في حالات استثنائية لا يعتد بها، صديقه الوحيد الذي يثق به هو طبيب الأورام الوقور المهذب د. ويلسون و الذي يكاد يكون النسخة المناقضة لهاوس في كل شيء تقريباً ما عدا البراعة في العمل و علاقة الصداقة القوية بينهما.
تبدأ معظم حلقات المسلسل بذات السيناريو تقريباً، منظر عام لأشخاص عاديين في نشاط عادي، احتفالي في أكثر الأوقات ثم يحدث عارض صحي غير متوقع لأحدهم، إغماء، نزيف ،هلاوس أو نوبات صرعية أو أي شيء آخر يستدعي نقل المصاب إلى المستشفى لتبدأ بعدها أحداث الحلقة، غالباً ما يفشل الأطباء في تحديد سبب الأعراض التي أصابت المريض لغموضها أو تناقضها، و لا بد أن تزداد الحالة سوءً بعد دخولها المستشفى إما لتأخر الأطباء في تحديد المشكلة أو لشروعهم في علاج خاطئ زاد من تعقيدها، هنا تزداد سخونة الوقائع و تجد د. هاوس يدور حول نفسه كالنحلة يكتب و يشطب سطوراً كثيرة فوق سبورته البيضاء و عندما ييأس يرسل فريقه لعمل المزيد من الفحوصات أو للتسلل لمسكن المريض أو حتى للبحث عن أحد أقاربه و يجلس منهكاً يحدق في الجدار أو يلعب بعكازه حتى قبل نهاية الحلقة بدقائق حيث تكون الأمور قد تأزمت لأبعد حد و لم تفلح كل المحاولات السابقة إلا في تعقيد مشكلة المريض أكثر. هنا تأتي لمحة العبقرية الغامضة حيث تتراص قطع الصورة المتاثرة إلى جوار بعضها البعض لتصنع صورة منطقية. هنا يقفز هاوس ليتجه لغرفة المريض ربما لأول مرة منذ بدء الحلقة و في أحيان كثيرة يسرع لغرفة العمليات لإيقاف جراحة خطرة على وشك أن تجرى للمريض..و مشهده الاستعراضي المفضل هو عندما يقتحم بعكازه و سترته الأنيقة غرفة العمليات المعقمة ليطلب من الجراحين التوقف عن شق جسد المريض و يخبرهم بفخر مستفز بالحل الذي وجده و الذي غالباً ما يكون مرضاً نادراً جداً لم يفكر أحد في إحتمالية إصابة المريض به قبله!
حسناً..ألا يذكرك د. هاوس بشخص من عالم الخيال كنت تعرفه من قبل؟
تعال لننحي جانباً الغلاف الطبي المخادع قليلاً..انس المستشفى و المرضى و اللغز الطبي..فقط تذكر أن لدينا معضلة لا يستطيع أحد حلها، وهناك شخص واحد حاد الذكاء متعجرف قليلاً لكنه يستخدم حواسه و ملاحظاته بطريقة مذهلة لحل المعضلة، رجل يكرهه منافسوه لكنهم يلجأون إليه لأنه بارع..رجل لديه صديق واحد يفهمه و يتقبله رغم طباعه السيئة..رجل و ياللمصادفة لا يخلو اسمه من جناس لفظي مع اسم هاوس ...شخصيه خيالية لا تمارس الطب لكن مبتكرها طبيب!
هل عرفته؟ إن كنت عرفته فبإمكانك أن تكمل الاستمتاع بكوب العصير.. يمكنك أن تسترخي في مقعدك و تستحلب بقايا الطعم العالق في لسانك و تقول في ثقة...إنها نكهة هولمز...شيرلوك هولمز!
أجل إنه هو هولمز. هاوس ليس سوى النموذج العصري لشيرلوك هولمز، نموذج متنكر في ثياب طبيب لا أكثر، نفس سمات الشخصية الكلاسيكية للمخبر الأسطورة بعدأن تنكرت في ثياب القرن الحادي و العشرين، لو كنت قد قرأت شيئاً من تراث هولمز لعرفت مدى فخره بنفسه و اعتداده بقدراته و أناقته و احتقاره لمفتشي سكوتلانديارد تماماً مثلما يفعل هاوس، هاوس الذي لا يثق في كلام المرضى مثلما لا يثق هولمز في كلام عملائه حتى يحل لغز الجريمة، هولمز الذي يرفض الإيمان بالخرافات و الأشباح يشبه هاوس الذي تمادى في هذا العصر ليصبح ملحداً لا يثق في معجزات الرب، لكنه يثق إلى حد ما في صديقه د. ويلسون رغم اعتقاده بأن ذكاءه محدود لكنه يستلطفه، هل هي مصادفة أن الصديق الوحيد لشيرلوك هولمز أسمه د. واطسون؟ هل هناك تشابه أسماء هنا؟
هل تريد المزيد من المقابلات؟ إليك واحدة أخيرة..هاوس مدمن لنوع قوي من المسكنات سبب له عدة مشاكل في المسلسل..و د.واطسون يروي عن صديقه هولمز أنه كان يحقن نفسه بالكوكاين عندما يصيبه الإحباط من الفراغ و قلة النشاط الذهني!
إذا كنت من الذين افتتنوا بشيرلوك هولمز فأنصحك بشدة بمشاهدة الأداء العبقري للمثل هيو لوري الذي يقوم بأداء دور هاوس فهو في نظري أفضل من نقل شخصية هولمز إلى الشاشة بتمكن و اقتدار حتى لو ادعى أنه طبيب أمريكي في القرن الحادي و العشرين.
أما إن كنت من الأغلبية التي شاهدت المسلسل و لم تقرأ عن شيرلوك هولمز من قبل وليست لديك الحماسة لتفعل فأنصحك بمشاهدة فيلم شيرلوك هولمز للمخرج جاي ريتشي لترى مقدار التشابه الغريب بينهما.
و في كلا الحالتين أرجوك لا تنس العبقري الأول الذي صنع المزيج البديع من المتعة و الإبهار الذي لازال الجميع يغرف منه إلى الآن!
الخميس، 25 أغسطس 2011
لمصر لا لعبدالناصر: في مديح آخر الفرسان!
إسم الكتاب: لمصر لا لعبد الناصر
المؤلف: محمد حسنين هيكل
الناشر: دار الشروق المصرية
منحت هذا الكتاب نجمتين من خمس في موقع Goodreads للكتب. والنجمتان لا تعنيان أن الكتاب سيء أو ضعيف المحتوى، بل العكس الكتاب ربما يكون أحد أفضل كتب هيكل من ناحية السلاسة و ترابط الأفكار و البعد عن الاستطراد. و قد كنت أنوي أن أصنفه في فئة أعلى خصوصاً و قد علمت أن الكتاب عبارة عن مقالات مجمعة نشرها هيكل في السبعينات في مطبوعة لبنانية رداً على الهجمة الشرسة التي شنها النظام المصري على العهد الناصري و قد أظهر هيكل براعة فائقة في تمرير ما يريد دون أن يفقد رزانة العبارة و بلاغة الأسلوب، كما كان منظماً و دقيقاً و هو يقسم دفاعه إلى نقاط أفرد كل واحدة منها في مقال/فصل خاص بها و استوفى نقاشها من مختلف الجوانب.
إلا أن العيب الجوهري في الكتاب هو من وجهة نظري العيب الدائم في كل ما يكتبه و يقوله هيكل، فهو على الرغم من مواهبه الضخمة و قدرته التحليلية البارعة يفتقد إلى الموضوعية تماماً عندما يتعلق الأمر بعبدالناصر. وافتقاد الموضوعية بالنسبة لهيكل لا يعني انخراطه في حملة تأليه غبية أو تدبيج عبارات عاطفية بلا معنى فهو أذكى من ذلك بكثير..لكن غياب الموضوعية عنده يتمثل في تلعثم لغته و غموض عبارته عندما تلامس الأوتار الحساسة لمرحلة حكم عبد الناصر، ولعل أبرز نقاط التلعثم تلك هي هزيمة ١٩٦٧م و ما ترتب عليها من أحداث و ما كشفته من إختلال خطير في منظومة حكم عبدالناصر، هنا يتلعثم الرجل الفصيح كثيراً و يتحدث عن عموميات لا تمس عمق الحقيقة و يقفز مباشرة إلى ما بعد الهزيمة و موقف عبدالناصر منها و تحمله للمسؤلية و تحضيره لحرب الاستنزاف لاحقاً.
النقطة الأخرى التي تلعثم فيها الرجل الفصيح في هذا الكتاب أيضاً هي موقف عبدالناصر من التعذيب و القمع الذي يجري في السجون في فترة حكمه، فكان رده و تفنيده للمسأله غير مقنعاً لي كقارئ.
لكن الكتاب يكون مقنعاً جداً في الحجة و الأسلوب عندما يتطرق لنقاط قوة عبدالناصر الحقيقية كنزاهة اليد و صدق النية في الاستقلال و الرغبة في تطوير البلاد عسكرياً و اقتصادياً هنا تتجلى مواهب هيكل الصحفية و البلاغية بلا عائق يعيقها فيسرد الوقائع و الحقائق و الأرقام بلا تحفظ فيبدع و يمتع و يكشف فصولاً صغيرة أيضاً من حياة عبدالناصر الشخصية و تعامله مع أولاده في التوظيف و خوفه عليهم من الإغراءات و المجاملات إذا اشتغلوا في وزارات حكومية بعيدة عن عينه!
كما يذكر للمؤلف إثارته لنقاط خلافية في سيرة عبدالناصر كخوضه لحرب اليمن و معاداته للأمريكان و انفتاحه على السوفيت و يسوق نقاطاً موضوعية إلى حد كبير في تبرير وجهة نظر ناصر السياسية حتى لو اختلفنا معها.
الكتاب جيد في عمومه لأهمية النقاط التي تناولها و لقرب مؤلفه من أحداثها لكن يعاب عليه غياب الموضوعية النقدية رغم تغنيه بها و تغييب الصراحة في المواضع الحساسة. كما أنه لا يخلو من مسحة المقالة الصحفية المتأثرة بالوضع الراهن(الذي أصبح تاريخاً الآن) و صرفها الكثير من السطور في مناقشة ما لم يعد موجوداً..
و يمكن تلخيص الكتاب بأنه دفاع حميم وفاءً لعبدالناصر و لعبدالناصر وحده!!
المؤلف: محمد حسنين هيكل
الناشر: دار الشروق المصرية
منحت هذا الكتاب نجمتين من خمس في موقع Goodreads للكتب. والنجمتان لا تعنيان أن الكتاب سيء أو ضعيف المحتوى، بل العكس الكتاب ربما يكون أحد أفضل كتب هيكل من ناحية السلاسة و ترابط الأفكار و البعد عن الاستطراد. و قد كنت أنوي أن أصنفه في فئة أعلى خصوصاً و قد علمت أن الكتاب عبارة عن مقالات مجمعة نشرها هيكل في السبعينات في مطبوعة لبنانية رداً على الهجمة الشرسة التي شنها النظام المصري على العهد الناصري و قد أظهر هيكل براعة فائقة في تمرير ما يريد دون أن يفقد رزانة العبارة و بلاغة الأسلوب، كما كان منظماً و دقيقاً و هو يقسم دفاعه إلى نقاط أفرد كل واحدة منها في مقال/فصل خاص بها و استوفى نقاشها من مختلف الجوانب.
إلا أن العيب الجوهري في الكتاب هو من وجهة نظري العيب الدائم في كل ما يكتبه و يقوله هيكل، فهو على الرغم من مواهبه الضخمة و قدرته التحليلية البارعة يفتقد إلى الموضوعية تماماً عندما يتعلق الأمر بعبدالناصر. وافتقاد الموضوعية بالنسبة لهيكل لا يعني انخراطه في حملة تأليه غبية أو تدبيج عبارات عاطفية بلا معنى فهو أذكى من ذلك بكثير..لكن غياب الموضوعية عنده يتمثل في تلعثم لغته و غموض عبارته عندما تلامس الأوتار الحساسة لمرحلة حكم عبد الناصر، ولعل أبرز نقاط التلعثم تلك هي هزيمة ١٩٦٧م و ما ترتب عليها من أحداث و ما كشفته من إختلال خطير في منظومة حكم عبدالناصر، هنا يتلعثم الرجل الفصيح كثيراً و يتحدث عن عموميات لا تمس عمق الحقيقة و يقفز مباشرة إلى ما بعد الهزيمة و موقف عبدالناصر منها و تحمله للمسؤلية و تحضيره لحرب الاستنزاف لاحقاً.
النقطة الأخرى التي تلعثم فيها الرجل الفصيح في هذا الكتاب أيضاً هي موقف عبدالناصر من التعذيب و القمع الذي يجري في السجون في فترة حكمه، فكان رده و تفنيده للمسأله غير مقنعاً لي كقارئ.
لكن الكتاب يكون مقنعاً جداً في الحجة و الأسلوب عندما يتطرق لنقاط قوة عبدالناصر الحقيقية كنزاهة اليد و صدق النية في الاستقلال و الرغبة في تطوير البلاد عسكرياً و اقتصادياً هنا تتجلى مواهب هيكل الصحفية و البلاغية بلا عائق يعيقها فيسرد الوقائع و الحقائق و الأرقام بلا تحفظ فيبدع و يمتع و يكشف فصولاً صغيرة أيضاً من حياة عبدالناصر الشخصية و تعامله مع أولاده في التوظيف و خوفه عليهم من الإغراءات و المجاملات إذا اشتغلوا في وزارات حكومية بعيدة عن عينه!
كما يذكر للمؤلف إثارته لنقاط خلافية في سيرة عبدالناصر كخوضه لحرب اليمن و معاداته للأمريكان و انفتاحه على السوفيت و يسوق نقاطاً موضوعية إلى حد كبير في تبرير وجهة نظر ناصر السياسية حتى لو اختلفنا معها.
الكتاب جيد في عمومه لأهمية النقاط التي تناولها و لقرب مؤلفه من أحداثها لكن يعاب عليه غياب الموضوعية النقدية رغم تغنيه بها و تغييب الصراحة في المواضع الحساسة. كما أنه لا يخلو من مسحة المقالة الصحفية المتأثرة بالوضع الراهن(الذي أصبح تاريخاً الآن) و صرفها الكثير من السطور في مناقشة ما لم يعد موجوداً..
و يمكن تلخيص الكتاب بأنه دفاع حميم وفاءً لعبدالناصر و لعبدالناصر وحده!!
الأحد، 3 يوليو 2011
كنت رئيساً لمصر: عن الثورة التي ضلت الطريق مبكراً!
المؤلف: محمد نجيب
الناشر: المكتب المصري الحديث 1984
كلما قرأت كتاباً عن ثورة الضباط الأحرار أملاً في المعرفة و رفع الحجب، أزدت حيرة و تشتتاً. فكل كتاب أقرأه يصف لي ثورة مختلفة و أشخاصاً مختلفين كأنني أقرأ عن عشرات الثورات و مئات الأحداث لا الثورة ذاتها. فبينما يرفع محمد حسنين هيكل الثورة إلى عنان السماء و يمجد عبدالناصر حتى يكاد يجعله نبي العصر المرسل متسلحاً بكومة لا تنتهي من الوثائق و الملفات، تجد آخرين يكيلون أقسى التهم لعبدالناصر و أيام الثورة التي يصفونها بالسوداء كمصطفى محمود في معظم كتابته عن عبدالناصر، و يقف آخرون منها موقفاً حيادياً يحلل سلبياتها و إيجابياتها بأسلوب علمي منطقي مثل جلال أمين الذي يقسم الثورة إلى مراحل و يفصل في التغييرات الاجتماعية و السياسية التي أحدثتها في المجتمع. لكن هناك قلة من الكتب النادرة التي تتحدث عن وقائع و أحداث و مشاهدات يومية، هذة الكتب لا تعنى بالتفسير و التبرير و تنقل صورة حية و صادقة لما كان يحدث دون أن تهتم بالتوصيف بكيف و لماذا. أحد هذة الكتب هو هذا الكتاب و الذي يسجل فيه أول رئيس للجمهورية المصرية الحديثة مذكراته بعد عقود ثلاثة قضاها داخل المعتقل. و يسرد وقائع يومية لأحداث ساخنة صاحبت فترة الثورة و فترة حكمه القصيرة التي تلتها و التي لم تتجاوز العامين قبل أن تتم إزاحته عن سدة السلطة لصالح جمال عبدالناصر.
يحكي محمد نجيب بمرارة ظاهرة في كل حروفه قصة الثورة التي كانت مجرد انقلاب عسكري لتصحيح الفساد داخل الجيش ثم تطورت لتصبح حركة ثم تجرأت لتسمي نفسها ثورة بعد التفاعل الشعبي الذي نالته في بداية أيامها. و ينسب محمد نجيب تلك الشعبية لضيق الناس من فساد الملك فاروق و لمرارة الهزيمة في حرب فلسطين ١٩٤٨ و احتلالها من قبل الصهاينة لا لشعبية الضباط الذين لم يكن يعرفهم أحد في ذلك الوقت.
و يفصل الأيام الأولى للثورة و الحيرة و الارتباك التي صاحبتها و الفراغ الدستوري و الدستور المؤقت ثم إسقاط الملكية و إعلان الجمهورية و كيف بدأت الثورة تحيد عن مسارها بتسرب العسكر إلى سدة الحكم بدلاً من العودة إلى ثكناتهم و تسلطهم على الحريات و الحياة السياسية في البلاد و إلغاء الأحزاب و تأسيس المخابرات ثم تحول أنياب تلك الثورة تجاه أبنائها فشرعت في التهامهم واحداً بعد الآخر فمزقتهم بين قتيل و سجين و شريد و لم يبق على سدة الحكم إلا ديكتاتور واحد خلف حكماً تسلطياً مركزياً بلا مؤسسات هو جمال عبدالناصر.
يكيل الكتاب الكثير من التهم لمجلس الثورة و لجمال عبدالناصر شخصياً و الذي لا يراه سوى ديكتاتور تسلطي يجيد لعبة الحيل السياسية و المؤامرات الخفية. و تتراوح هذه التهم بين الفساد الشخصي و الانحراف السياسي و بغض النظر عن التهم الشخصية الصغيرة التي يصعب التحقق منها، فقد أفرد الكتاب صفحات كثيرة لنقد موقف عبدالناصر من السودان و تفريطه في الوحدة معه بسبب جهله هو وصلاح سالم بالخلفية التاريخية و الاجتماعية للشعب السوداني و الاحزاب السودانية التي كان معظمها مؤيداً للوحدة مع مصر. و يصف في تفاصيل كثيرة الخطوات التي قام بها نجيب قبل عزله لتحرير السودان من الاحتلال البريطاني و التمهيد لوحدته مع مصر و الفشل الذي حل بتلك الوحدة بعد عزله و توجس السودانيين من الضباط الذين يعتقلون رئيسهم بسبب خلاف على السلطة و إصرار السودانيين على عودة نجيب إلى سدة الحكم بسبب ارتباطهم العاطفي و السياسي به و هو الذي لم يسمح به عبدالناصر و أدى إلى فشل الوحدة و تحول السودان مع الوقت من حليف إلى عدو.
الانتقاد التفصيلي الآخر الذي يعرضه الكتاب هو اتفاقية الجلاء التي وقعها عبدالناصر مع الانجليز بعد فترة وجيزة من عزل محمد نجيب و يسرد المؤلف تفاصيل الاجتماعات الطويلة له مع الانجليز و رفضه للكثير من الشروط المجحفة في الاتفاقية و التي رأى أنها تهدد السيادة المصرية على أراضيها و فوجئ فيما بعد بعدالناصر يقبل بها بكل ترحاب بل بما هو أسوأ منها، و يرى نجيب أن توقيع عبدالناصر على الاتفاقية هو ثمن موافقة الانجليز على بقائه في الحكم بعد إزاحة نجيب!
وسواء اتفق البعض أو اختلف مع رأي محد نجيب في رجال الثورة و قراراتهم التي ربما يراها البعض مبررة بالنسبة للظروف التي واجهوها فإن ما لا يحتمل التبرير على أي وجه هو الطريقة اللا إنسانية التي عامل بها رجال الثورة زميلهم ورئيس الجمهورية و قائد الثورة بعد تتحيته عن سدة الحكم.
ففي سطور مثقلة بالمرارة و الأسى يصف اللواء محمد نجيب رئيس الجمهورية تفاصيل اعتقاله من قصر عابدين(مقر الرئاسة) و نقله إلى فيلا عارية من الأثاث صادرتها حكومة الثورة من أحد السياسيين في ضواحي القاهرة ليقيم فيها معتقلاً تحت حراسة مشددة و وسط رقابة لصيقة و إهانات مستمرة من الحراس امتدت لثلاثة عقود و لم تتوقف الإهانات عند شخصه بل لحقت أبناءه الثلاثة الذين دخل أكبرهم المعتقل و مات بعد خروجه منه بأشهر و أغتيل الثاني في ظروف غامضة أثناء دراسته بألمانيا و أقصي الأصغر من وظيفته بقرار رياسي و انتقل للعمل سائق أجرة و ربما هو أول نجل رئيس جمهورية يشتغل بهذه الوظيفة
و لعل أكثر أيام الاعتقال مرارة هي أيام حرب ١٩٥٦ عندما دخلت الجيوش البريطانية و الإسرائلية لمصر لاحتلال قناة السويس و الذعر الذي أصاب الثوار وقتها و دفعهم لنقل محمد نجيب من معتقله و إخفائه لمدة شهرين في منفى آخر في أقاصي الريف لمدة شهرين في غرفة رطبة مظلمة خوفاً من أن يثور الشعب على الهزيمة المتوقعة حينها و يطالب بتحريره و عودته إلى سدة الرياسة
يحكي محمد نجيب موقفاً أثر فيه كثيراً في المعتقل عندما عاد ولده من المدرسة ليسأله (هل صحيح يا أبي أنك كنت رئيساً للجمهورية؟)
و يجيبه الأب بنعم، فيخرج الإبن كتابه المدرسي ليريه ما كتب فيه
( الرئيس جمال عبدالناصر هو أول رئيس للجمهورية) فدمعت عينا الرجل و قال يا ولدي هذه إرادة الحكومة لا إرادة الشعب.
ترى مالذي كان سيحمله المستقبل لمصر لو لم تتم تنحية نحمد نجيب عن الحكم؟
وهل زرعت الثورة بذور نهايتها منذ ذلك الوقت المبكر بالأخطاء الفادحة التي ارتكبتها؟
هل كانت أسباب ثورة ٢٥ يناير كامنة منذ مدة أبعد كثيراً مما تخيلنا؟
الأربعاء، 22 يونيو 2011
أثقل "ربع جرام" في الدنيا
الكتاب: ربع جرام
المؤلف: عصام يوسف
الناشر: الدار المصرية اللبنانية
هذه الرواية دليل حي على أن أهم ما في الأدب صدقه و عفويته و أن كل شيء يمكن أن يأتي لاحقاً لذلك، بعض الأشياء تواجدت بالفعل وبعضها لم يحضر ولعل الغائب الأكبر هنا كان اللغة السليمة، فكل الرواية تقريباً كتبت باللغة العامية المصرية و تقسيم الكتاب جاء أقرب إلى السيناريو منه إلى الرواية. كل شيء آخر من وجة النظر النقدية يوحي بعمل متعثر و غير موفق بالمقاييس التقليدية للأدب، لكن المؤلف نجح في إعادة الإعتبار للسرد العفوي و لقوة الفكرة و روح العمل حتى و إن بدا الأسلوب بدائياً أو مرتبكاً في بعض الأوقات. تحكي الرواية بصراحة شديدة قصة شلة من الصحاب و رحلتهم مع الإدمان، تدور أجواء الرواية في الثمانينات و تعاصر بداية الانفتاح و أثره على أسر الشباب الذين لم يكن المال ليشكل عائقاً أمام جموحهم و مرحهم الذي بدا آمناً و بريئاً حتى أحضر أحدهم (ربع غرام) من المخدر في إحدى سهراتهم لتبدأ خيوط المأساة تتشكل ببطء لكن بإحكام خانق أيضاً. و لعل أجمل ما يميز الرواية تجسيدها لعوالم المدمنين و معاناتهم بواقعية و صدق بعيداً عن تهويلات سينما الثمانينات الغبية التي صورت المدمن كشخص أقرب للمعتوه. فهنا نشاهد المدمن الحقيفي و كيف تنزلق شخصيته في منعطف معقد من الرغبات المتناقضة وفقدانه السيطرة على غرائزه و تشتته المرعب بين ما يريد و ما لايريد و إنكاره طوال الوقت أنه مدمن!
تبلغ القصة مرحلة الذروة عدة مرات خلال العمل و في كل مرة تعتقد أن العمل قد شارف النهاية لكنه لا يفعل..بل تعود الدائرة الجهنمية لتنغلق من جديد و تمتد فصولاً مؤلمة أخرى، لأنها ببساطة قصة واقعية وليست عملاً خيالياً و تمردها على التسلسل المألوف في السرد نقطة تحسب لها و تبرز بوضوح مدى تعقيد و تشابك عالم الإدمان و شخصية المدمن الذي يتأرجح طوال الوقت بين موقف الضحية و الجان من ناحية و بين الغباء و العبقرية من ناحية أخرى.
إلا أن خاتمة الرواية المؤثرة نجحت في جبر ثقل تعدد الذروات و تكرار الأحداث خلال صفحاتها الكثيرة..كما لم يخل العمل من روح فكاهية مرحة نجح المؤلف من خلالها في نقل روح الشباب المتوهجة عبر صفحات عمله البديع
عمل ممتع يستحق القراءة
المؤلف: عصام يوسف
الناشر: الدار المصرية اللبنانية
هذه الرواية دليل حي على أن أهم ما في الأدب صدقه و عفويته و أن كل شيء يمكن أن يأتي لاحقاً لذلك، بعض الأشياء تواجدت بالفعل وبعضها لم يحضر ولعل الغائب الأكبر هنا كان اللغة السليمة، فكل الرواية تقريباً كتبت باللغة العامية المصرية و تقسيم الكتاب جاء أقرب إلى السيناريو منه إلى الرواية. كل شيء آخر من وجة النظر النقدية يوحي بعمل متعثر و غير موفق بالمقاييس التقليدية للأدب، لكن المؤلف نجح في إعادة الإعتبار للسرد العفوي و لقوة الفكرة و روح العمل حتى و إن بدا الأسلوب بدائياً أو مرتبكاً في بعض الأوقات. تحكي الرواية بصراحة شديدة قصة شلة من الصحاب و رحلتهم مع الإدمان، تدور أجواء الرواية في الثمانينات و تعاصر بداية الانفتاح و أثره على أسر الشباب الذين لم يكن المال ليشكل عائقاً أمام جموحهم و مرحهم الذي بدا آمناً و بريئاً حتى أحضر أحدهم (ربع غرام) من المخدر في إحدى سهراتهم لتبدأ خيوط المأساة تتشكل ببطء لكن بإحكام خانق أيضاً. و لعل أجمل ما يميز الرواية تجسيدها لعوالم المدمنين و معاناتهم بواقعية و صدق بعيداً عن تهويلات سينما الثمانينات الغبية التي صورت المدمن كشخص أقرب للمعتوه. فهنا نشاهد المدمن الحقيفي و كيف تنزلق شخصيته في منعطف معقد من الرغبات المتناقضة وفقدانه السيطرة على غرائزه و تشتته المرعب بين ما يريد و ما لايريد و إنكاره طوال الوقت أنه مدمن!
تبلغ القصة مرحلة الذروة عدة مرات خلال العمل و في كل مرة تعتقد أن العمل قد شارف النهاية لكنه لا يفعل..بل تعود الدائرة الجهنمية لتنغلق من جديد و تمتد فصولاً مؤلمة أخرى، لأنها ببساطة قصة واقعية وليست عملاً خيالياً و تمردها على التسلسل المألوف في السرد نقطة تحسب لها و تبرز بوضوح مدى تعقيد و تشابك عالم الإدمان و شخصية المدمن الذي يتأرجح طوال الوقت بين موقف الضحية و الجان من ناحية و بين الغباء و العبقرية من ناحية أخرى.
إلا أن خاتمة الرواية المؤثرة نجحت في جبر ثقل تعدد الذروات و تكرار الأحداث خلال صفحاتها الكثيرة..كما لم يخل العمل من روح فكاهية مرحة نجح المؤلف من خلالها في نقل روح الشباب المتوهجة عبر صفحات عمله البديع
عمل ممتع يستحق القراءة
الأربعاء، 13 أبريل 2011
كوابيس جدة: حيث لا مكان للحب!
عنوان الكتاب: كوابيس جدة
المؤلف: هيلاري مانتل Hilary Mantel
ترجمة: د. فاطمة نصر
الناشر: سطور الجديدة ٢٠٠٩
العنوان الأصلي للكتاب:
Eight Months on Ghazzah Street: Viking, 1988
علي أن أعترف في البدء أن الذي استدرجني لشراء هذه الرواية هو فخ عنوانها فليس من المألوف و أنت تتجول ببصرك على رفوف مكتبة أن تجد رواية أجنبية تتحدث عن جدة، بل و تسبقها بالكوابيس، و أن تكون الرواية لكاتبة حاصلة على جائزة "بوكر مان" فهذا يجعل الأمر أكثر إغراء و يغري بدفع قيمة الكتاب و المغامرة بقراءته لاحقاً. فيما بعد اكتشفت أن العنوان كان فخاً متقناً بالفعل فالرواية الحقيقية لا تحمل ذات الإسم بل اسماً أكثر حيادية هو "ثمانية أشهر في شارع غزة" لكنني لسبب ما لم أشعر بالضيق لأن العنوان الذي على غلاف الترجمة لم يكن هو العنوان الأصلي، بل شعرت أن المترجمة(د. فاطمة نصر) وفقت إلى حد كبير في اختيار العنوان البديل، على الأقل لتخرج من اللبس الذي سيوحي به إسم غزة في العنوان الأصلي.
تدور أحداث الرواية في مدينة جدة في بداية الثمانينات الميلادية و تحكي قصة عائلة بريطانية (زوج و زوجة) انتقلا للإقامة فيها لإتمام مشروع بناء عملاق لإحدى الوزارات، حيث يعمل الزوج مهندساً للإنشاءات و تظل الزوجة حبيسة المنزل بلا عمل.
منذ بداية الرواية لا تتحرج هيلاري مانتل في نقل مشاعر الريبة و التوجس التي تشعر بها (فرانسيس) الزوجة و راوية الأحداث. فهي و على الرغم من اغترابها الدائم عن وطنها بريطانيا، و على الرغم من إقامتها في بلدان فقيرة في أفريقيا لعدة سنوات إلا أنها لا تشعر بالارتياح للذهاب للسعودية حيث ينبغي عليها تغطية رأسها طوال الوقت و الامتناع عن احتساء الخمر و الأسوأ من ذلك هو بقاؤها بلا عمل في المنزل حيث أن تخصصها كرسامة خرائط غير مرغوب به هناك.
تسجل الرواية بدقة و عين خبيرة تفاصيل المكان و خلفيته الجغرافية و التاريخية، و تسهب في وصف الأماكن و الشوارع و الأسواق و أحوال الطقس في جدة في تلك الفترة، كما أن النقاشات التي يديرها البريطانيون و الأجانب عموماً فيما بينهم تتناول الأحداث الساخنة في تلك الفترة بلا تحفظ فتجدهم يتحدثون عن علاقة السعودية بالولايات المتحدة في تلك الفترة و عن أعمال الشغب التي حدثت في عام ١٩٧٩ في الحرم المكي و عن الشغب الذي رافق افتتاح التلفزون و أن الملك اضطر لقتل ابن شقيقه قائد المتمردين على افتتاح التلفزون. و على الرغم من كل تلك الدقة و الوصف الحميم إلا أن المؤلفة حرصت أن تنقل لنا الإنطباع الخاص ب(فرانسيس) بطلة الرواية و الزوجة العاطلة عن العمل بأن هناك حاجزاً زجاجياً سميكاً يفصلها عن الحياة الحقيقية في جدة، و أن كل ما تراه و تسمعه هو غرائبي و غير منطقي و مزيف بشكل ما.
كانت أزمة فرانسيس الحقيقية في جدة أنها لم تستطع أن تلمس شيئاً حقيقياً في حياتها الجديدة. فكل ما تعرفه عن طريق نصائح الغربيين الآخرين يبدو لها متناقضاً و متحيزاً إلى حد كبير، لكن محاولاتها البحث عن واقع حقيقي كانت تبوء بفشل متكرر أيضاً. فالصحيفة الوحيدة المتاحة لها هي (السعودي جازيت) و هي أقرب ما تكون إلى صحيفة البرافدا السوفيتية التي لا تنشر إلا الأخبار الزاهية أو البورباجندا الفجة عن البلد و تصور كل ما يجري من أحداث بأنه مؤامرة على الإسلام و المسلمين.
ترفض فرانسيس السكن في مجمع مغلق خاص بالأجانب نفوراً من بعض زملاء زوجها و تفضل السكن في عمارة مكونة من أربع شقق يجاورها فيها ياسمين الباكاستانية المسلمة و زوجها الذي يعمل في مكتب الأمير و في الدور العلوي تسكن سميرة السعودية و زوجها عبدالناصر الذي لا يتحدث مع أحد و يعمل في وزارة ما لا تعرفها. و هناك تلك الشقة المغلقة التي تدور حولها الإشاعات بأن أحد أقارب الوزير يستخدمها في لقاءات حميمة مع عشيقة سرية له.
تحاول ياسمين إقناع فرانسيس باعتناق الإسلام و تهديها ترجمة لمعاني القرآن الكريم و تحاول أن تبرر لها بعض الممارسات التي تحدث باسم الدين و بأن الإعلام هو من يتجنى على الإسلام و تقارن بمبالغة تراها فرانسيس مضحكة بين الفساد الحاصل في الغرب و الاستقامة الموجودة في جدة!
ياسمين تبدو عصبية على الدوام و كأن هناك ما يقلقها ولا تجرؤ على البوح به و على النقيض منها كانت سميرة الزوجة السعودية، فلم تجد فيها فرانسيس على الرغم من اتقانها الانجليزية إلا شخصية سطحية تعشق المسلسلات واقتناء الملابس الفاخرة، و على الرغم من ذلك نجد أن فرانسيس في مذكراتها التي تكتبها تبدي تعاطفاً واضحاً مع معظم الشخصيات النسائية التي تقابلها في الرواية و تتخذ موقفاً صارماً و حدياً من معظم الشخصيات الرجالية خصوصاً التي تنتقد المجتمع المحلي و تبدي نحوة ميولاً عنصرية بل و تغضب و تغادر إحدى حفلات الكريسماس لأن صديقاً لزوجها تمادى في شتيمة عنصرية لسكان البناية
لكن ذلك الموقف الناقد لتفكير الغربيين المقيمين في جدة لا يقابله تعاطف عام مع سكانها السعوديين، بل معاناه مستمرة في محاولة لكشف الأقنعة للوصول للهوية الحقيقية للناس، للتواصل مع مجتمع حقيقي دون جدوى، تتحول تلك المعاناة لاحقاً إلى أزمة نفسية تعيشها البطلة خصوصاً مع تسارع الأحداث و ازدياد كثافة الغموض الذي يحيط بها فياسمين صديقتها الوحيدة تبدأ في الغياب لفترات طويلة و لا تخبرها عن الذي تفعله إلا بعبارات غامضة، و تلمحها مختبئة في سطح البناية دون مبرر، كما تبدأ في ملاحظة تحركات مريبة في شقة الغرام السري و التي يتضح لاحقاً أنها ليست كذلك و أن كل ما راج عنها مجرد غطاء لشيء أكثر غموضاً لم تستطع كشفه حتى رحيلها.
تنتهي الرواية نهاية دموية عندما يتعرض (فيرفاكس) ضيف فرانسيس وزوجها القادم من الوطن في زيارة عمل قصيرة و لمحة الضوء الصريحة و المنفتحة الوحيدة في وسط غابة الشخصيات التي شوهتها النقود و العنصرية من حولها يتعرض لحادث غامض يؤدي إلى وفاته في صبيحة اليوم الذي تلى عشاء هادئاً في منزلهم و تشك فرانسيس في أن سبب وفاته ملاحظة أبداها بخصوص شيء غامض لاحظة في الشقة العلوية عندما خرج في منتصف الليل بحثاً عن هواء نقي.
و تزيد الأحداث غموضاً و دموية عندما يتعرض زوج ياسمين مرافق الأمير لإطلاق نار في ذات الفندق الذي سكنه فيرفاكس البريطاني القتيل و تثور الشائعات بأنه كان برفقة ضابط كبير في حين يؤكد آخرون أنه برفقة عملاء شيعة!
و تشاهد فراسيس عبر نافذة السيارة ياسمين و هي تركب سيارة أخرى برفقة عبدالناصر زوج سميرة الصامت دائماً و برفقتهما شخص ثالث لمحته فرانسيس يدخل العمارة أكثر من مرة بصفته عامل بناء!
مالذي يحدث بالفعل؟
هل هذه جرائم عنف عادية؟
هل هي غطاء لأحداث كبرى لا يعرفها أحد؟
هل ياسمين بريئة أم متآمرة؟
هل هي متدينة أم جامحة؟
لا تعطينا الرواية أية إجابة
و السبب هو أن المدينة كلها متآمرة لإخفاء الحقيقة
المدينة ذات السماء الصافية و الأجواء الحارة تنقلب فجأة لترعد و تمطر بغزارة تغرق البيوت و تسد الشوارع وكأنها تعطي إنذاراً لفرانسيس بأن تتوقف عن محاولتها كشف المستور و رفع الحجب
كأنها تخبرها أن فترة الضيافة انتهت و أن عليها الرحيل قبل أن يزداد غضب هذه المدينة الملتبسة
و هو ما تفعله بالفعل فتغادر و في قلبها و عقلها الكثير من الذكريات المنهكة التي تعلم يقيناً أنها لن تشفى منها قريباً وربما لا تشفى أبداً
تدور أحداث الرواية في مدينة جدة في بداية الثمانينات الميلادية و تحكي قصة عائلة بريطانية (زوج و زوجة) انتقلا للإقامة فيها لإتمام مشروع بناء عملاق لإحدى الوزارات، حيث يعمل الزوج مهندساً للإنشاءات و تظل الزوجة حبيسة المنزل بلا عمل.
منذ بداية الرواية لا تتحرج هيلاري مانتل في نقل مشاعر الريبة و التوجس التي تشعر بها (فرانسيس) الزوجة و راوية الأحداث. فهي و على الرغم من اغترابها الدائم عن وطنها بريطانيا، و على الرغم من إقامتها في بلدان فقيرة في أفريقيا لعدة سنوات إلا أنها لا تشعر بالارتياح للذهاب للسعودية حيث ينبغي عليها تغطية رأسها طوال الوقت و الامتناع عن احتساء الخمر و الأسوأ من ذلك هو بقاؤها بلا عمل في المنزل حيث أن تخصصها كرسامة خرائط غير مرغوب به هناك.
تسجل الرواية بدقة و عين خبيرة تفاصيل المكان و خلفيته الجغرافية و التاريخية، و تسهب في وصف الأماكن و الشوارع و الأسواق و أحوال الطقس في جدة في تلك الفترة، كما أن النقاشات التي يديرها البريطانيون و الأجانب عموماً فيما بينهم تتناول الأحداث الساخنة في تلك الفترة بلا تحفظ فتجدهم يتحدثون عن علاقة السعودية بالولايات المتحدة في تلك الفترة و عن أعمال الشغب التي حدثت في عام ١٩٧٩ في الحرم المكي و عن الشغب الذي رافق افتتاح التلفزون و أن الملك اضطر لقتل ابن شقيقه قائد المتمردين على افتتاح التلفزون. و على الرغم من كل تلك الدقة و الوصف الحميم إلا أن المؤلفة حرصت أن تنقل لنا الإنطباع الخاص ب(فرانسيس) بطلة الرواية و الزوجة العاطلة عن العمل بأن هناك حاجزاً زجاجياً سميكاً يفصلها عن الحياة الحقيقية في جدة، و أن كل ما تراه و تسمعه هو غرائبي و غير منطقي و مزيف بشكل ما.
كانت أزمة فرانسيس الحقيقية في جدة أنها لم تستطع أن تلمس شيئاً حقيقياً في حياتها الجديدة. فكل ما تعرفه عن طريق نصائح الغربيين الآخرين يبدو لها متناقضاً و متحيزاً إلى حد كبير، لكن محاولاتها البحث عن واقع حقيقي كانت تبوء بفشل متكرر أيضاً. فالصحيفة الوحيدة المتاحة لها هي (السعودي جازيت) و هي أقرب ما تكون إلى صحيفة البرافدا السوفيتية التي لا تنشر إلا الأخبار الزاهية أو البورباجندا الفجة عن البلد و تصور كل ما يجري من أحداث بأنه مؤامرة على الإسلام و المسلمين.
ترفض فرانسيس السكن في مجمع مغلق خاص بالأجانب نفوراً من بعض زملاء زوجها و تفضل السكن في عمارة مكونة من أربع شقق يجاورها فيها ياسمين الباكاستانية المسلمة و زوجها الذي يعمل في مكتب الأمير و في الدور العلوي تسكن سميرة السعودية و زوجها عبدالناصر الذي لا يتحدث مع أحد و يعمل في وزارة ما لا تعرفها. و هناك تلك الشقة المغلقة التي تدور حولها الإشاعات بأن أحد أقارب الوزير يستخدمها في لقاءات حميمة مع عشيقة سرية له.
تحاول ياسمين إقناع فرانسيس باعتناق الإسلام و تهديها ترجمة لمعاني القرآن الكريم و تحاول أن تبرر لها بعض الممارسات التي تحدث باسم الدين و بأن الإعلام هو من يتجنى على الإسلام و تقارن بمبالغة تراها فرانسيس مضحكة بين الفساد الحاصل في الغرب و الاستقامة الموجودة في جدة!
ياسمين تبدو عصبية على الدوام و كأن هناك ما يقلقها ولا تجرؤ على البوح به و على النقيض منها كانت سميرة الزوجة السعودية، فلم تجد فيها فرانسيس على الرغم من اتقانها الانجليزية إلا شخصية سطحية تعشق المسلسلات واقتناء الملابس الفاخرة، و على الرغم من ذلك نجد أن فرانسيس في مذكراتها التي تكتبها تبدي تعاطفاً واضحاً مع معظم الشخصيات النسائية التي تقابلها في الرواية و تتخذ موقفاً صارماً و حدياً من معظم الشخصيات الرجالية خصوصاً التي تنتقد المجتمع المحلي و تبدي نحوة ميولاً عنصرية بل و تغضب و تغادر إحدى حفلات الكريسماس لأن صديقاً لزوجها تمادى في شتيمة عنصرية لسكان البناية
لكن ذلك الموقف الناقد لتفكير الغربيين المقيمين في جدة لا يقابله تعاطف عام مع سكانها السعوديين، بل معاناه مستمرة في محاولة لكشف الأقنعة للوصول للهوية الحقيقية للناس، للتواصل مع مجتمع حقيقي دون جدوى، تتحول تلك المعاناة لاحقاً إلى أزمة نفسية تعيشها البطلة خصوصاً مع تسارع الأحداث و ازدياد كثافة الغموض الذي يحيط بها فياسمين صديقتها الوحيدة تبدأ في الغياب لفترات طويلة و لا تخبرها عن الذي تفعله إلا بعبارات غامضة، و تلمحها مختبئة في سطح البناية دون مبرر، كما تبدأ في ملاحظة تحركات مريبة في شقة الغرام السري و التي يتضح لاحقاً أنها ليست كذلك و أن كل ما راج عنها مجرد غطاء لشيء أكثر غموضاً لم تستطع كشفه حتى رحيلها.
تنتهي الرواية نهاية دموية عندما يتعرض (فيرفاكس) ضيف فرانسيس وزوجها القادم من الوطن في زيارة عمل قصيرة و لمحة الضوء الصريحة و المنفتحة الوحيدة في وسط غابة الشخصيات التي شوهتها النقود و العنصرية من حولها يتعرض لحادث غامض يؤدي إلى وفاته في صبيحة اليوم الذي تلى عشاء هادئاً في منزلهم و تشك فرانسيس في أن سبب وفاته ملاحظة أبداها بخصوص شيء غامض لاحظة في الشقة العلوية عندما خرج في منتصف الليل بحثاً عن هواء نقي.
و تزيد الأحداث غموضاً و دموية عندما يتعرض زوج ياسمين مرافق الأمير لإطلاق نار في ذات الفندق الذي سكنه فيرفاكس البريطاني القتيل و تثور الشائعات بأنه كان برفقة ضابط كبير في حين يؤكد آخرون أنه برفقة عملاء شيعة!
و تشاهد فراسيس عبر نافذة السيارة ياسمين و هي تركب سيارة أخرى برفقة عبدالناصر زوج سميرة الصامت دائماً و برفقتهما شخص ثالث لمحته فرانسيس يدخل العمارة أكثر من مرة بصفته عامل بناء!
مالذي يحدث بالفعل؟
هل هذه جرائم عنف عادية؟
هل هي غطاء لأحداث كبرى لا يعرفها أحد؟
هل ياسمين بريئة أم متآمرة؟
هل هي متدينة أم جامحة؟
لا تعطينا الرواية أية إجابة
و السبب هو أن المدينة كلها متآمرة لإخفاء الحقيقة
المدينة ذات السماء الصافية و الأجواء الحارة تنقلب فجأة لترعد و تمطر بغزارة تغرق البيوت و تسد الشوارع وكأنها تعطي إنذاراً لفرانسيس بأن تتوقف عن محاولتها كشف المستور و رفع الحجب
كأنها تخبرها أن فترة الضيافة انتهت و أن عليها الرحيل قبل أن يزداد غضب هذه المدينة الملتبسة
و هو ما تفعله بالفعل فتغادر و في قلبها و عقلها الكثير من الذكريات المنهكة التي تعلم يقيناً أنها لن تشفى منها قريباً وربما لا تشفى أبداً
الخميس، 31 مارس 2011
موسم الهجرة إلى... الشاشة!
لا زلت أتذكر ذلك اليوم جيداً بكل انطباعته العميقة في وجداني..بكل الزلازل الصغيرة و الكبيرة التي أحدثها في قرية أفكاري الصغيرة و التي لم تعد بعدها أبداً كما كانت، و لم يعد العالم كله بعدها لما كان عليه و يبدو ان القادم بحاجة إلى كاتب عبقري من طراز جورج أورويل ليتوقعه..
كنت وقتها طالباً في الجامعة، و أسكن في السكن الطلابي الذي تشمل قائمة الممنوعات فيه كل شيء تقريباً من التلفزون و الفيديو و حتى الاحتفال بصوت صاخب مع أصدقائك. كانت و سيلة الترفيه الوحيدة هي أن يكون عندك سيارة و أن تهيم بها في الشوارع الساكنة أو الصاخبة و أن تجلس قليلاً على شاطيء البحر و أن تعرج على مكتبة جرير في فرعها اليتيم في شارع فلسطين لتتامل ذات الكتب لنجيب محفوظ و محمد عبدالحليم عبدالله و يوسف السباعي و باقي قائمة مكتبة مصر و التي بالفعل قرأت معظمها منذ سنوات، لم يكن في الحياة شيء يكسر الكآبة سوى القليل من الأحداث و الأقل من المناسبات السعيدة..كالفرح بتجاوز امتحان صعب أو الظفر بسفر خارج البلاد في الإجازة الصيفية.
عدا ذلك كانت الرتابة و الهموم تتقاسمان معي مساءات جدة الطويلة و ليلها الذي كان يقبض الأنفاس...حتى جاء ذلك اليوم
كان صديقي الذي يسكن في شقته الخاصة يجلس متوتراً على جهاز الحاسب العتيق و يراجع التمديدات الغريبة الخارجة من الجهاز و المتصلة بالهاتف و يقوم بتشغيل الجهاز و إغلاقه عدة مرات ثم يجري اتصالات أخرى من هاتفه الجوال و يعود بعدها لفحص ذات الاسلاك و مراجعة الكثير من الطلاسم على الشاشة، ثم و بعد دهر ينبعث صوت معدني حاد من مكان ما بين التوصيلات يتبعه صوت تشوش كهربائي ثم يصمت كل شيء.. فجأه وجدته يحدق في الشاشة بتمعن و يضغط بعض الازار ثم يقفز في فرح قفزة جنونية
- لقد فعلتها..فعلتها...نحن الآن متصلون بالإنترنت!
كانت هذه الحادثة صدمة حضارية عنيفة عشتها أنا و الملايين من جيلي الذين عاصرنا التلفزون (أبو أريل) و كان منتهى أملنا مراسلة مجلة ماجد و الفوز بجائزة سن توب!
كانت ليلة عصيبة استمر الخط المتصل بشبكة البحرين بتكلفة اتصال دولي يتقطع باستمرار كل عشر دقائق تقريباً، و استمرينا في المحاولة دون كلل حتى أشرقت الشمس و نحن نحدق مبهورين في الشاشة التي لأول مرة في تاريخها تقوم بتحميل صور و برامج لم يقم أحد بتحميلها عبر سي دي من شارع خالد بن الوليد.
أذكر جيداً دهشتنا العظيمة عندما نجحنا في إجراء محادثة دردشة عبر موقع ياهو مع شخص أمركي في ولاية ما، أعتقد أن شعور أرمسترونج وهو يمشي على القمر لم يكن ليختلف كثيراً!. ثم نقاشنا المحموم حول ماهية البريد الإلكتروني و فخرنا بأول بريد إلكتروني سجلناه و دهشتنا العظيمة من الرسائل السريعة التي تقاطرت عليه، كنت أشعر وقتها أن شيئاً غير عادي سيحدث و سيحدث على مستوىً جلل، سلاح جديد في يد الناس، نافذة سحرية يستطيعون أن يتنفسوا منها هواء الحرية و أذكر أنني كتبت في تلك الفترة مقالاً نشر في جريدة البلاد بعنوان"كوة تسعنا جميعاً...كي نمر" و مما قلته فيه إن قطار التقنية قد ترك لنا شيئاً خاصاً يفتح كوة في جدار عزلتنا...و قد آن الوقت كي نمر منها!
....
....
لكن مالم أتخيله و لا في أقصى شطحات خيالي أن أعاصر و أشاهد سطوة الانترنت وهي تغير وجه الأرض فعلاً، لم أتوقع أن يكون ذلك اليوم بهذا القرب و أن يكون الطوفان بهذا العنف الذي يزيح حكاماً من عروشهم و يرعب آخرين و ينذر بزلازل لا يعلمها إلا الله..من كان يتخيل أن ذلك الصوت المعدني المتحشرج و الاتصال المتقطع هو طريق المارد الخرافي ليرج العروش و يهدم القصور و ينشر الفضائح؟ من كان يتوقع أن تلك النبضات المتقطعة و الرموز الغامضة على الشاشة ستجعل نصف العالم يراقب بشغف نصفه الآخر و هو يهتف في الميادين بإسقاط الحاكم هنا و هناك؟
و هل كان مؤسس موقع التواصل الإجتماعي (فيس بوك) الذي أسسه و هو يشعر بالوحدة لكي يلفت نظر الفتيات في جامعته، هل كان يتخيل أن يصبح موقعه أخطر منصة سياسية في العالم؟
لقد أثبتت الإنترنت أنها الفأر الذي هدم سد مأرب، و أنه لا الحكومات و لا الشعوب توقعت أن ينجز الفأر مهمته بهذه السرعة والكفاءة!
هناك شيء ما غريب و غير معتاد في كل ما يجري هنا؟ شيء يوشك أن يفتح للعالم كله صفحة جديدة غير مرتقبة و غير متوقعة، شيء يشبه إرهاصات إختراع الطباعة و المحرك البخاري و دوائر السيلكون و حبوب منع الحمل!
أشياء بدت عادية و غير مريبة في أول ظهورها، بل و توقع الكثيرون لها الفشل لكنها كانت ألغاماً مدمرة لنسيج و تكوين المجتمع ككل في صورته التقليدية و عادت لتخلق مجتمعاً جديداً لا يشبه الأول بأي شكل من الأشكال ولا يمكن أن يعود إليه مهما كلف الأمر.
لكن هذا الشيء الغامض الجذاب مختلف، ولا أحد يستطيع التنبؤ بأثره ولا بضربته القادمة، إن أسوأ كوابيس المستبدين قد تحققت فيه فهو ينمو بسرعة و يتطور و يغير شكله(منتديات، ماسينجر، فيس بوك،مدونات،يوتيوب، تويتر) ولا يمكن اختراقه أو السيطرة عليه، و هو يمّكن كل من أراد من أن يكون له منبر و صوت مسموع، ومن المستحيل تقريباً إسكاته!
ترى ما هو القادم؟
و إلى أين نحن ذاهبون؟
مالذي يمكن أن نستيقظ و ننظر إليه من النافذة/الشاشة بدهشة في المرة القادمة؟
بكل ثقة أقول و بأعلى صوت لا أعلم
لكنني أعلم أن من سيكون مستعداً للتغيير و منفتحاً عليه هو من سيفوز أو ينجو بأقل الخسائر
وللأسف لا يبدو أن أحداً من أصحاب القرار في قومي مستعد لتقبل التغيير، بل إنهم لازالوا يبنون منازلهم الفاخرة في مجرى السيل القادم!
الأحد، 27 مارس 2011
هيكل بين الصحافة و السياسة: عندما يتحول الجنرال إلى راوية!
المؤلف: محمد حسنين هيكل
الناشر: دار الشروق المصرية
من أشهر الانتقادات التي توجه لهيكل من خصومة هي أنه يتحدث عن الأموات و أن كلامه لا دليل عليه سواه. و بغض النظر عن صحة هذه المقولة أو عدمها فإن هذا الكتاب ينفيها تماماً. فالكتاب الذي قاربت صفحاته الخمسمائة صفحة يحتوي على ملحق غني بالوثائق حرص مؤلفه على نشره في حياة أطراف القصة التي تناولها. أما قصة الكتاب فشأن آخر.. شأن يتأرجح لا بين الصحافة و السياسة كما يقول الغلاف بل بين الوفاء و الخيانة بين الصداقة و العداوة بين الزمالة و المنافسة ...بين هيكل و الأخوين أمين!
يسرد الكتاب بصراحة موجعة و بحقائق مفصلة رحلة هيكل في الصحافة و تقاطعاتها مع التوأمين على مدار ما يزيد على العشرين عاماً و كيف دخل هيكل دار أخبار اليوم بعد أن اشترى الأخوان المجلة التي يعمل فيها و كيف غادرها بعد عشر سنوات من الصداقة و الزمالة و الكفاح مع التوأم ليرأس تحرير الأهرام. ثم العلاقة المتوترة بين التوأمين من جهة و عبدالناصر من جهة و تدخله أكثر من مرة للتوسط بينهما قبل أن تقع الحادثة الكبرى و هي القبض على مصطفى أمين بتهمة التجسس لصالح المخابرات الأمركية! وهي التهمة التي ظنها هيكل تلفيقاً أو مبالغة من الجهاز الأمني قبل أن يسمع التسجيلات و الحوارات الدائرة بين مصطفى أمين و رجل المخابرات و ما تلا ذلك من اعترافات خطيرة كتبها مصطفى أمين في ستين صفحة على شكل خطاب اعتذار موجه لعبدالناصر، فضح فيه معظم علاقاته بالمخابرات الأمركية بل و اعترف انه استخدم موظفين في دار أخبار اليوم لجمع معلومات له عن شخصيات و أسماء سياسية بغرض كتابة التقارير عنها لا لنشاط صحفي، و يبرع هيكل في وصف حيرته و تمزقه بين موقفه الإنساني من شخص يراه معلماً له في المهنة و بين ما يراه من حقائق مفزعة تمس الشرف و الوطنية و يقرر التعاطف معه إنسانياً و زيارته في السجن و التوسط له ليحظى بمعاملة حسنة خلال فترة محكوميته رغم عدم رضى عبدالناصر. و في ذات الوقت تتزايد الشبهات حول نشاط علي أمين المقيم في لندن و يصر عبدالناصر على أن علي أمين يقوم بدور مخابراتي هو الآخر و أن مصاريف إقامته البالغة ثلاثة آلاف جنيه استرليني في الشهر كفاتورة للفندق فقط لا يمكن أن يتحملها شخص عادي تم إقاف مرتبه الشهري من مصر. و تتعقد خيوط القضية و تتشابك و يشير هيكل إلى معضلة أخرى واجهته و هي أنه اكتشف في فترة إشرافه على أخبار اليوم خلال سجن مصطفى أمين وجود مبلغ يقارب المليون جنيه دخل الحسابات كأموال سائلة لا يعرف أحد مصدرها سوى أن مصطفى أمين و علي أمين كانا يأتيان بها نقداً على دفعات لسداد الالتزامات المادية للجريدة وهو ما حاول جهاز الادعاء استخدامه لإثبات جاسوسية مصطفى أمين لكن هيكل رفض أن يزود المحكمة بدليل إضافي يكون هو طرفاً فيه.
ولأن الحياة لا تخلو من تقلبات و أعظمها في حياة هيكل هي وفاة عبدالناصر فقد تبدل الحال و جاء اليوم الذي أعفي فيه هيكل من رئاسة تحرير الأهرام ليخلفه فيها مصطفى أمين الخارج من السجن و ليشن عليه حرباً لا هوادة فيها كانت آخر فصولها دخول هيكل المعتقل و بتهمة التخابر مع الأجنبي و من عجائب الدهر أن يكون صاحب المعلومة التي وشت به هو مصطفى أمين!
بغض النظر عن أن الكتاب يتناول قضية حساسة و شخصية للكاتب إلا أنه نجح بامتياز في جعله مثالاً يحتذى في فن القصة الصحفية أو الإخبارية و كشف عن موهبة كبيرة في السرد و البوح الفني كما أنه لم يتخل أبداً عن قدرته العجيبة على ضبط عباراته بدبلوماسية نادرة لا يتقنها إلا هيكل فرغم كل التحولات العنيفة في القصة لم يكف هيكل عن وصف مصطفى و علي بالأستاذين ولم يطلق على أي منهما صفة الكذب أو ينعت أحدهما بالجاسوس. و حرص كل الحرص على أن يوصل الحقيقة بلهجة مهذبة إلى أبعد حد و أن يجعل بوحة و استطراده نوعاً من التأمل في كيف و لماذا أكثر من لماذا أنا بالذات. كما حاول تكراراً إغفال الحديث عن نفسه و أمجاده الصحفية التي يفخر بها أكثر من غيرها باستثناء هامش طويل أضافه في آخر الكتاب عن ما فعله بالأهرام من احتضان لكبار الكتاب و شبابهم رداً على اتهامات كثيرة طالته بأنه حارب الجميع و حول الأهرام إلى أهرام هيكل!
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)