داعبت وجوهنا نسمات رقيقة نادرة الوجود إلا في هذا الوقت من العام، كانت من اللحظات النادرة التي تشعر فيها أن الحياة لا يمكن أن تكون أفضل أو أجمل.
ذوّب في فنجانه ملعقة من السكر وتراجع في كرسيه كأنه على وشك البدء في تأليف قصيدة شعرية قبل أن يتمتم: تعرف يا صديقي.. أنا لا أشعر بالأمان!.
لم تكن تلك هي العبارة المتوقعة منه في مثل هذا الجو الشاعري، رفعت حاجبي مندهشاً دون أن أعلق لكنه تابع
تعرف أنني في وضع مالي جيد، مقارنة بمتوسط دخل الناس، ولديّ وظيفة محترمة وعلاقات جيدة ومنزلي على وشك الاكتمال…
قاطعته ساخراً:
– لأجل ذلك يفترض أن تقلق بشدة على مستقبلك..أليس كذلك؟
اعتدل في كرسيه ووضع فنجانه على الطاولة قبل أن يجيبني:
– هذه هي المسألة، تخيل أنني بكل هذه النعم التي حباني بها الله أبتهل إليه كل يوم ألا يمرض أحد والديّ المسنين، وأن يمدهما بالصحة والعافية.
اعتدلت بدوري وقاطعته مجدداً:
– حفظهما الله لك لكن ما دخل ذلك بموضوعنا؟
– هذا هو لب الموضوع (أجابني).. تخيل لا قدر الله لو مرض أحدهما مرضاً من الأمراض التي نسمع عنها.. تخيل فقط السيناريو المرعب الذي يراودني كل ليلة.. ستهرع بوالدك أو والدتك إلى أقرب مستشفى، غالباً ما سيكون تابعاً لوزارة الصحة وستجد (في أفضل سيناريو متخيل) اهتماماً ورعاية جيدين، في قسم الطوارئ ستتم السيطرة على الحالة، ويقوم الأطباء بتنويم الوالد في أحد الأقسام، وبعدها بساعات سيأتيك الطبيب بابتسامة متعاطفة وهو يحمل صورة أشعة أو تقريراً لمختبر، ويشرح لك مدى تعقيد حالة الوالد وحاجته للنقل العاجل إلى مستشفى متخصص لإكمال العلاج، سيقول لك لقد خاطبنا المستشفيات وأرسلنا الفاكسات، لكن الموضوع قد يستغرق وقتاً، لذلك حاول أن تفعل وساطاتك أو أن تنقل الوالد إلى المستشفى الفلاني التابع للقطاع الخاص، لأن لديهم قسماً مؤهلاً للعناية بمثل هذه الحالات.
ثم يربت على ظهرك في تعاطف، ويقول لك كان الله بعونك يا ولدي. تخيل ما الذي بيدك وقتها لتقوله أو تفعله؟ ستجري مجموعة اتصالات تعرف بعدها أن نقل الوالد أصعب مما تتصور، ولن تحتمل أن تراه في حالته الحرجة تلك، لذلك ستتخذ القرار بنقله إلى المستشفى الخاص، طبعاً لا شيء في الدنيا يساوي صحة والديك، لكن راتبك كله لن يكفي ليلتين في العناية المركزة، فضلاً عن الأدوية والفحوصات التي لا تنتهي.. تخيل لو طالت إقامته في المستشفى شهراً.. شهرين.. ثلاثة .. تخيل مبلغ الفاتورة الفلكي. من أين ستدبره؟ كم ستستدين؟ وإلى متى؟ كم من الوقت ستحتمل؟ من أين ستقترض؟ ومن أين ستسدد؟
قلت له لا تكن متشائماً هكذا، الوضع ليس بتلك المأساوية وبالتأكيد ستجد مخرجاً.
أطلق تنهيدة عميقة.. نظر في عيني ثم أردف:
– صدقني لست متشائماً كما تعتقد، لكنني واقعي، وأشاهد ما يجري من حولي كل يوم، ونظرة واحدة على ما تنشره الصحف من حالات إنسانية تستجدي العلاج تخبرك بالوضع الصحي لدينا. كل الحلول التي ستقترحها حلول تعتمد على الفزعة وشهامة المسؤول فلان وعطف المدير فلان، لكن لا نظام رعاية طبية محكماً وحقيقياً يطبق على الجميع يجعلك تنام مرتاح البال.
المرض في بلادي يحتاج الكثير من المال، أو الكثير من النفوذ، أو الكثير من هدر الكرامة، ومن لا يملك أحدها فعليه أن يبتهل إلى الله كل يوم ألا يمرض له عزيز.
كان فنجان الشاي قد برد، وفقدت كل شهية في أن أتناوله، لقد أفسد حواره الليلة تماماً.. ظللت محملاً بهمّ كلماته بعد انصرافي. قد يكون ما قاله سوداوياً ومتشائماً أكثر من الواقع، لكنه جعلني أردد بقلب متوجس اللهم احفظ أحبائي جميعاً وقهم ذل المرض!.