الأربعاء، 13 أبريل 2011

كوابيس جدة: حيث لا مكان للحب!


عنوان الكتاب: كوابيس جدة
المؤلف: هيلاري مانتل  Hilary Mantel
ترجمة: د. فاطمة نصر
الناشر: سطور الجديدة ٢٠٠٩
العنوان الأصلي للكتاب:


علي أن أعترف في البدء أن الذي استدرجني لشراء هذه الرواية هو فخ عنوانها فليس من المألوف و أنت تتجول ببصرك على رفوف مكتبة أن تجد رواية أجنبية تتحدث عن جدة، بل و تسبقها بالكوابيس، و أن تكون الرواية لكاتبة حاصلة على جائزة "بوكر مان" فهذا يجعل الأمر أكثر إغراء و يغري بدفع قيمة الكتاب و المغامرة بقراءته لاحقاً. فيما بعد اكتشفت أن العنوان كان فخاً متقناً بالفعل فالرواية الحقيقية لا تحمل ذات الإسم بل اسماً أكثر حيادية هو "ثمانية أشهر في شارع غزة" لكنني لسبب ما لم أشعر بالضيق لأن العنوان الذي على غلاف الترجمة لم يكن هو العنوان الأصلي، بل شعرت أن المترجمة(د. فاطمة نصر) وفقت إلى حد كبير في اختيار العنوان البديل، على الأقل لتخرج من اللبس الذي سيوحي به إسم غزة في العنوان الأصلي.
تدور أحداث الرواية في مدينة جدة في بداية الثمانينات الميلادية و تحكي قصة عائلة بريطانية (زوج و زوجة) انتقلا للإقامة فيها لإتمام مشروع بناء عملاق لإحدى الوزارات، حيث يعمل الزوج مهندساً للإنشاءات و تظل الزوجة حبيسة المنزل بلا عمل.
منذ بداية الرواية لا تتحرج هيلاري مانتل في نقل مشاعر الريبة و التوجس التي تشعر بها (فرانسيس) الزوجة و راوية الأحداث. فهي و على الرغم من اغترابها الدائم عن وطنها بريطانيا، و على الرغم من إقامتها في بلدان فقيرة في أفريقيا لعدة سنوات إلا أنها لا تشعر بالارتياح للذهاب للسعودية حيث ينبغي عليها تغطية رأسها طوال الوقت و الامتناع عن احتساء الخمر و الأسوأ من ذلك هو بقاؤها بلا عمل في المنزل حيث أن تخصصها كرسامة خرائط غير مرغوب به هناك.
تسجل الرواية بدقة و عين خبيرة تفاصيل المكان و خلفيته الجغرافية و التاريخية، و تسهب في وصف الأماكن و الشوارع و الأسواق و أحوال الطقس في جدة في تلك الفترة، كما أن النقاشات التي يديرها البريطانيون و الأجانب عموماً فيما بينهم تتناول الأحداث الساخنة في تلك الفترة بلا تحفظ فتجدهم يتحدثون عن علاقة السعودية بالولايات المتحدة في تلك الفترة و عن أعمال الشغب التي حدثت في عام ١٩٧٩ في الحرم المكي و عن الشغب الذي رافق افتتاح التلفزون و أن الملك اضطر لقتل ابن شقيقه قائد المتمردين على افتتاح التلفزون. و على الرغم من كل تلك الدقة و الوصف الحميم إلا أن المؤلفة حرصت أن تنقل لنا الإنطباع الخاص ب(فرانسيس) بطلة الرواية و الزوجة العاطلة عن العمل بأن هناك حاجزاً زجاجياً سميكاً يفصلها عن الحياة الحقيقية في جدة، و أن كل ما تراه و تسمعه هو غرائبي و غير منطقي و مزيف بشكل ما.
كانت أزمة فرانسيس الحقيقية في جدة أنها لم تستطع أن تلمس شيئاً حقيقياً في حياتها الجديدة. فكل ما تعرفه عن طريق نصائح الغربيين الآخرين يبدو لها متناقضاً و متحيزاً إلى حد كبير، لكن محاولاتها البحث عن واقع حقيقي كانت تبوء بفشل متكرر أيضاً. فالصحيفة الوحيدة المتاحة لها هي (السعودي جازيت) و هي أقرب ما تكون إلى صحيفة البرافدا السوفيتية التي لا تنشر إلا الأخبار الزاهية أو البورباجندا الفجة عن البلد و تصور كل ما يجري من أحداث بأنه مؤامرة على الإسلام و المسلمين.
ترفض فرانسيس السكن في مجمع مغلق خاص بالأجانب نفوراً من بعض زملاء زوجها و تفضل السكن في عمارة مكونة من أربع شقق يجاورها فيها ياسمين الباكاستانية المسلمة و زوجها الذي يعمل في مكتب الأمير و في الدور العلوي تسكن سميرة السعودية و زوجها عبدالناصر الذي لا يتحدث مع أحد و يعمل في وزارة ما لا تعرفها. و هناك تلك الشقة المغلقة التي تدور حولها الإشاعات بأن أحد أقارب الوزير يستخدمها في لقاءات حميمة مع عشيقة سرية له.
تحاول ياسمين إقناع فرانسيس باعتناق الإسلام و تهديها ترجمة لمعاني القرآن الكريم و تحاول أن تبرر لها بعض الممارسات التي تحدث باسم الدين و بأن الإعلام هو من يتجنى على الإسلام و تقارن بمبالغة تراها فرانسيس مضحكة بين الفساد الحاصل في الغرب و الاستقامة الموجودة في جدة!
ياسمين تبدو عصبية على الدوام و كأن هناك ما يقلقها ولا تجرؤ على البوح به و على النقيض منها كانت سميرة الزوجة السعودية، فلم تجد فيها فرانسيس على الرغم من اتقانها الانجليزية إلا شخصية سطحية تعشق المسلسلات واقتناء الملابس الفاخرة، و على الرغم من ذلك نجد أن فرانسيس في مذكراتها التي تكتبها تبدي تعاطفاً واضحاً مع معظم الشخصيات النسائية التي تقابلها في الرواية و تتخذ موقفاً صارماً و حدياً من معظم الشخصيات الرجالية خصوصاً التي تنتقد المجتمع المحلي و تبدي نحوة ميولاً عنصرية بل و تغضب و تغادر إحدى حفلات الكريسماس لأن صديقاً لزوجها تمادى في شتيمة عنصرية لسكان البناية
لكن ذلك الموقف الناقد لتفكير الغربيين المقيمين في جدة لا يقابله تعاطف عام مع سكانها السعوديين، بل معاناه مستمرة في محاولة لكشف الأقنعة للوصول للهوية الحقيقية للناس، للتواصل مع مجتمع حقيقي دون جدوى، تتحول تلك المعاناة لاحقاً إلى أزمة نفسية تعيشها البطلة خصوصاً مع تسارع الأحداث و ازدياد كثافة الغموض الذي يحيط بها فياسمين صديقتها الوحيدة تبدأ في الغياب لفترات طويلة و لا تخبرها عن الذي تفعله إلا بعبارات غامضة، و تلمحها مختبئة في سطح البناية دون مبرر، كما تبدأ في ملاحظة تحركات مريبة في شقة الغرام السري و التي يتضح لاحقاً أنها ليست كذلك و أن كل ما راج عنها مجرد غطاء لشيء أكثر غموضاً لم تستطع كشفه حتى رحيلها.
تنتهي الرواية نهاية دموية عندما يتعرض (فيرفاكس) ضيف فرانسيس وزوجها القادم من الوطن في زيارة عمل قصيرة و لمحة الضوء الصريحة و المنفتحة الوحيدة في وسط غابة الشخصيات التي شوهتها النقود و العنصرية من حولها يتعرض لحادث غامض يؤدي إلى وفاته في صبيحة اليوم الذي تلى عشاء هادئاً في منزلهم و تشك فرانسيس في أن سبب وفاته ملاحظة أبداها بخصوص شيء غامض لاحظة في الشقة العلوية عندما خرج في منتصف الليل بحثاً عن هواء نقي.
و تزيد الأحداث غموضاً و دموية عندما يتعرض زوج ياسمين مرافق الأمير لإطلاق نار في ذات الفندق الذي سكنه فيرفاكس البريطاني القتيل و تثور الشائعات بأنه كان برفقة ضابط كبير في حين يؤكد آخرون أنه برفقة عملاء شيعة!
و تشاهد فراسيس عبر نافذة السيارة ياسمين و هي تركب سيارة أخرى برفقة عبدالناصر زوج سميرة الصامت دائماً و برفقتهما شخص ثالث لمحته فرانسيس يدخل العمارة أكثر من مرة بصفته عامل بناء!
مالذي يحدث بالفعل؟
هل هذه جرائم عنف عادية؟
هل هي غطاء لأحداث كبرى لا يعرفها أحد؟
هل ياسمين بريئة أم متآمرة؟
هل هي متدينة أم جامحة؟
لا تعطينا الرواية أية إجابة
و السبب هو أن المدينة كلها متآمرة لإخفاء الحقيقة
المدينة ذات السماء الصافية و الأجواء الحارة تنقلب فجأة لترعد و تمطر بغزارة تغرق البيوت و تسد الشوارع وكأنها تعطي إنذاراً لفرانسيس بأن تتوقف عن محاولتها كشف المستور و رفع الحجب
كأنها تخبرها أن فترة الضيافة انتهت و أن عليها الرحيل قبل أن يزداد غضب هذه المدينة الملتبسة
و هو ما تفعله بالفعل فتغادر و في قلبها و عقلها الكثير من الذكريات المنهكة التي تعلم يقيناً أنها لن تشفى منها قريباً وربما لا تشفى أبداً