السبت، 25 فبراير 2012

خريف كوداك!


يمكنني أن أتذكر جيداً أول كاميرا رقيمة شاهدتها في حياتي، كان ذلك منذ مدة تزيد على عقد من الزمان. كنا لانزال طلاباً في كلية طب الأسنان، و كانت متطلبات الكلية تقتضي-ولازالت- تصوير الحالات التي يعالجها الطلبة قبل و بعد العلاج و تقديم الصور في نهاية العام لأستاذ المادة لإثبات أداء المتطلبات الإكلينيكية و دخول الامتحان النهائي. كنا نتشارك أنا و زملائي في كاميرا عملاقة بعدسة اسطوانية طويلة و فلاش حلقي ممتد بأسلاك ملتفة حول الكاميرا، كان منظر الكاميرا مهيباً و مرعباً تماماً كسعرها الذي اقتضى منا خططاً تقشفية طويلة المدى حتى تمكنا من تحصيل ثمنها. لكن سعر الكاميرا لم يكن مشكلتها الوحيدة، فبعد انتهاء التصوير تبدأ معاناة تحميض الأفلام، و لأن الأفلام التي نستخدمها من نوع الشرائح الشفافة، فكان تحميضها يتطلب الذهاب إلى معمل وحيد لشركة (كوداك) في طريق المدينة-وسط جدة- و التذلل لدى الموظف لقبول تحميض الفيلم بسرعة دون رفع السعر، و انتظار الصور التي في بعض الأحيان تخرج محترقة، أو مشوشة لأن أحدنا لم يحسن ضبط الفيلم أو ضبط الإعدادات الخاصة بالكاميرا. لكن و بخلاف حالات الخطأ تلك كانت معظم الصور آية في الوضوح و الدقة. في تلك الفترة جاء أحد الزملاء إلى العيادة بكاميرا غريبة الشكل، كانت مفلطحة أشبه بكتاب سميك، عدستها صغيرة ضامرة، و ليس لها ذلك الفلاش المهيب، لوح بها في وجوهنا و قال "هذه كاميرتي الجديده" ثم تمعن في وجوهنا المتعجبة و تابع "كاميرا ديجيتال..تعمل بدون أفلام!”. و ضغط زراً صغيراً في جانبها فخرج منها قرص مرن ، ثم تابع"لا حاجة للفيلم..هذا هو الفيلم". لم تستغرق دهشتنا سوى دقائق، حتى رأينا صور الكاميرا العجيبة، كانت آية في الفشل المطلق، صورها باهته مظلمة و فاقدة للدقة. كما أن القرص المرن لم يكن يحتمل أكثر من صورتين أو ثلاث على الأكثر و يحتاج إلى تبديله بقرص آخر. كان ذلك كافياً كي نطلق أحكامنا الواثقة: الكاميرا الرقمية اختراع فاشل، لا يمكن أن تقارن بأي شكل من الأشكال بالكاميرا العادية و أفلامها بالغة الدقة..خصوصاً عندما تقارن بأفلام من نوعية جيدة كأفلام شركه كوداك!.
بالطبع لست بحاجة لذكر مدى سذاجتنا و جهلنا في ذلك الوقت، و أن الأمر لم يستغرق عشر سنوات لتصبح كاميرتنا المهيبة شكلاً وسعراً قطعة من الخردة القديمة، و أن كل طلبة الكلية اللاحقين اصبحوا من ملاك الكاميرات الرقمية.
عادت تلك الحادثة إلى ذهني و أنا أقرأ بحزن خبر إفلاس شركة كوداك العملاقة، و التي كانت على قائمة أكبر الشركات العالمية لعقود و أثرت حياتنا باختراعات و تقنيات في مجال التصوير فحفظت ذكرياتنا و لحظاتنا الحلوة و ملامح أحبائنا في صدور مجالسنا و ألبوماتنا لنسترجعها متى ما راودنا الحنين.
ترى كيف غفلت شركة عملاقة مثل كوداك عن قراءة المستقبل القريب؟ كيف فشلت في التنبؤ بمصير أعظم منتجاتها و لم تبادر بتغيير سفينتها الغارقة قبل أن يغمرها اليم؟
كيف تشابهت قرارت مجلس إدارة محترف يدير جيشا من ١٤٥ ألف موظف مع قرارات شباب طائش لا يملك أي خبرة في الحياة مثلنا في ذلك الوقت؟
إن كان ثمة عبرة مما حدث لشركة كوداك فهي أن الثوابت لا تبقى على ثباتها طوال الوقت، و أن ثباتها لمئات السنين لا يعني مناعتها ضد التغيير، و أن ذلك التغيير قد يكون سريعاً و صادماً و دون توقع.
ثمة اختراعات و حوادث غيرت الكثير من القيم و الموازيين في العالم، و رغم بساطتها الخادعة فقد كانت أشبه بعود الثقاب الذي أشعل حقلاً يابساً. و في كل مرة كان الخاسرون هم أولئك الذين يترددون في اتخاذ قرار التغيير حتى يضطرون إليه في وقت يكون قد أصبح متأخراً جداً و مكلفاً جداً.
ترى كم من قررات التغيير التي ينبغي علينا أن نتخدها فوراً؟ و كم من القررات التي تأخرنا عن اتخاذها حتى الآن؟ هل لازالت نظرتنا الثابتة للحياة صالحة لعالم اليوم؟ أم أنها تحولت إلى قطعة خردة قديمة دون أن نعلم؟ و هل ما يشهده العالم من ثورات و تحولات يستدعي أن نعيد النظر في ما لدينا من طرق تفكير؟
ترى كم مقدار التشابه بيننا و بين كوداك؟ أخشى أن تكون الإجابة مرعبة!
صحيفة الشرق المطبوعة العدد رقم (٨٣) صفحة (١٧) بتاريخ (٢٥-٠٢-٢٠١٢)

الأربعاء، 22 فبراير 2012

ن




لا يوجد حرف أكثر دفئاً وحناناً من حرف النون، باستدارته الناعمة و ذراعيه المفتوحتين و تجويفه الذي يستعد لاحتضان العالم.
شبهه علماء اللغة بالدواة التي تمد القلم بزاده من العلم و بذلك فسروا القسم الإلهي به، فكانت "ن والقلم". الدواة و الحاضنة و الزاد و الملجأ و الملتجى للقلم و المداد للعلم و الثقافة و الحياة و النور.
رغم أن التاء كانت أداة التأنيث الدائمة في اللغة إلا أن النون وحدها استفردت بالدلالة على النساء، فكانت هي نون النسوة،و كأن الأنثى بكل ذلك الفيض من الحنان لا تحتمل قسوة التاء المربوطة التي تعزلها عن فضاء الصفحة البيضاء و العالم. لابد للأنثى أن تحتضن العالم بحبها و تحتويه في قلبها و تمنحنه كوامن فيضها، وحدها (النون) هي من تجاريها بنقطتها الوحيدة المستديرة المستقرة في باطنها، تحتويها كما تحتوي الأم جنينها، تحتضنها كما تحتضن حبيباً غائباً بكل كيانها فتجعله مركزاً لكل ذلك الفيض من الحب و الثراء.
ألم يحن الوقت لكي تبحث عن نونك الخاصة بك، ابحث عنها في أول من احتضنك و أنت نقطة صغيرة في رحمها، اركض نحوها، احتضنها بشوق و ادفن رأسك في صدرها، عد لتكون النقطة التي تحتويها بكيانها، اعط نفسك ترف الاحتضان و الانغماس في فيض الحنان الباذخ، ضمها إليك بقدر كل ما تعاظم فيك من ألم وجوع و قهر و حرمان،بلل صدرها بدمع الطفل الصغير الكامن فيك، ذلك الطفل الذي تاه منذ قرن و تحاول العثور عليه الآن في أحضانها.
انكفئ في حضن أمك، في نورها و نعيمها، لا تفعل ذلك لأنه واجب عليك، ولا لأنك تطلب رضاها، و لا لكي تنال التوفيق في يومك، افعله لأنك تحتاجه بشده، لأنك محظوظ جداً و سعيد جداً إن استطعت أن تناله. هناك، في قلب تجويف النون العظيمة، طاقة هائلة من الحب لو وزعت على الكون لجعلت الحيتان ترقص في البحر و النجوم تغني في السماء،و الصحارى تغتسل بنشوة المطر. طاقة من الحب تجعل الربيع سيد الفصول و الغزلان ملكات الغاب و البلابل وزراء القصر و ندماء الملكات. لكن كل ذلك الإكسير مخزون مخبؤ لك، مشفر على شفرة خلاياك و مسامات بشرتك و تجاعيد وجهك. كل ما تحتاجه هو أن تغمر نفسك فيه فتعود صبياً يافعاً ممتلئاً بالأمنيات.
لست بحاجة لتتسول الحب بعد اليوم من أحد، ولا أن تبحث عن القبول و الانسجام ممن قد ينمحه و يمنعه، دونك النبع كله و النهر ذاته، ما شق الأرض إلا لك و ما جرى إلا ليغمرك فلا تكن أعظم المحرومين بالإعراض عنه. أدركه الآن و انغمس فيه حتى الغرق، فأنت لا تدري متى يأتي اليوم الذي تطلبه فيه و لا تجده، فهو ككل الأشياء الجميلة لابد راحل!
ابحث عن باقي جملة النعيم من حولك، لا تنسى نونك الأخرى رفيقة دربك حبيبتك/زوجتك، لا تفرط في الإعراب كثيراً و لا تدقق في أحكام الصرف. اصنع جملتك الخاصة و قواعدك الخاصه ابتدئ منها و انتهي إليها انزلق على حواف النون لكن احرص دائماً أن تكون في داخلها، لا تقف على طرف الصفحة بعيداً و لا تفقد دهشتك من جمالها يوماً و ثق أنك كلما اقتربت أكثر كلما نلت من الدهشة و النشوة مالم تكن تحسب أنك نائله.
تلفت حولك، تأمل كل نون أحاطك الله بها، تأمل صغيراتك اللواتي يلعبن من حولك، تأمل بسماتهن و لمساتهن و صخبهن البديع، أطلق قيثارة قلبك لتدخل معهن في معزوفة الحب، أغمض عينيك قليلاً و اصغ لهن بروحك، دع فيض برائتهن يلامس شغاف وجدانك و يهز كيانك في رعشة نورانية لم تتذوقها من قبل، اقطع كل صلاتك بحروف الهجاء النابية و حركات الضبط الفجة، اكتب كل جملك مبتدئاً بحرف النون في أولها و وسطها و آخرها، تخيله مركبة نورانية تحملك لتطوف في نعيم الدنيا قبل أن تقلع بك محلقة نحو الجنة.
كم هم سعداء أولئك الذين أدركوا سر النون، الذين غاصوا في أعماق نعيمها و برد ريها. لازال هناك متسع من الوقت لتلحق بهم..فقط افتح عينيك جيداً و أعد قراءة سطور حياتك دقق في جملها و حروفها، أفعالها و ضمائرها، و ستندهش كم من نون عظيمة في حياتك لم تلق لها بالاً من قبل.بادر الآن يا صديقي..لا تخجل من تعلم حروف الهجاء مجدداً.


السبت، 4 فبراير 2012

هنيئاً لسعادة الوكيل الحصري!


ثمة حادثتان شهيرتان اعتبرهما من أكبر حوادث الخداع الجماعي التي مررت بها، حادثتان تلاشت أمامها الحاسة النقدية المتشككة لدي و انخرطتُ في تماهٍٍ كاملٍ مع قطيع المخدوعين العريض حتى تكشفت اللعبة في النهاية و قد ربح من ربح فيها من الأذكياء و بقي المخدوعون من أمثالي يحكون رؤوسهم في حيرة حتى الآن.
الحادثة الأولى كانت حالة خداع عالمي و لم ينج من قبضتها أحد فيما أظن، و من تجرأ و شكك فيها لابد أنه غرق تحت أمواج الذعر و لم يُسمع له صوت، كانت تلك الحادثة هي (حمى سنة ٢٠٠٠ ) و ما رافقها من التهويل و التخويف بأن كل أجهزة الحاسب سوف تتعطل مع مطلع العام المهيب، الكثير من المقالات، و الكثير من التحليلات و التوقعات و التفسيرات للكارثة التي ستحل بالعالم نتيجة تحول التاريخ من خانتين إلى أربع خانات. و بالطبع لا يمكنك أن تنسى وجه المسؤول المهيب و هو يرتدي (البشت) الفاخر و يتحدث في جدية بأن وزارته قد استعدت لمواجهة مشكلة العام ٢٠٠٠ و أنهم اتخذوا كافة الاحتياطات اللازمة لذلك و أنه يحب طمأنة المواطنين بأن العمل في وزارته لن يتأثر إطلاقاً
بالطبع لم يتأثر العمل، الجهة الوحيدة التي تأثرت هي خزانة الدولة التي تحملت أعباء البرامج و العقود التي أبرمت مع تجار المرحلة و الذين لا زالوا يعتقدون أن عام ٢٠٠٠ هو أفضل عام مر على تاريخ البشرية!

الحادثة الثانية كانت قصة طويلة ممتدة لسنوات، كانت أحداثها أشبه بالمسلسلات التركية تتصاعد الإثارة فيها أحياناً ثم تخفت قليلاً ثم لا تلبث أن تعود إلى السطح مجدداً و هكذا بتكرار ممل لذات الأحداث. كان ذلك المسلسل هو قصة الانضمام لمنظمة التجارة العالمية، و ما أدراك ما منظمة التجارة العالمية، الكثير و الكثير جداً من المصطلحات الغامضة التي يتفوه بها أشخاص مهمون جداً و بجدية كبيرة مع تقطيبة بين الحاجبين و الإشارة الدائمة إلى العولمة و الشفافية و الأسواق المفتوحة..إلخ..إلخ.
كانت مفاوضات الانضمام للمنظمة تبدو أشبة بمباراة في كأس العالم بين البرازيل و المنتخب السعودي لكن الفرق هنا أنك لا تشاهد المباراة لكن تسمع أخبارها من محللي القناه الرياضية السعودية فقط، تسمع عبارات (الحفاظ على خصوصيتنا، فرضنا شروطنا، لا تنازل عن ثوابتنا) حتى جاءنا البشير بأن المنتخب قد فاز بضربات الجزاء، و أن العملاق المسمى المنظمة قد أذعن صاغراً لشروطنا و وافق عليها و رحب باقتصادنا العملاق فيها. و لأنني مواطن صالح من فئة الموظفين لم أهتم كثيراً بمعرفة التفاصيل، لكنني صدقت ذلك المسؤول و هو يبشرني و براءة الأطفال في عينيه بأنهار العسل و اللبن التي ستغدق علي و بمزايا الشركات الكبرى التي ستافس على إرضائي، و بأن ريالاتي القليلة التي أجنيها ستصبح ذات قيمة أكبر أمام شركات عملاقة تطمح في كسب أرض جديدة لإرضاء الزبون
و في ذات الوقت كان مسؤول آخر يحذر التجار و الوكلاء المحليين من صعوبة المرحلة القادمة و أن عليهم تعديل أوضاعهم و تحسين خدماتهم قبل أن تكتسحهم الشركات الدولية.
و الآن و بعد مرور تلك الأعوام أكتشف أن الوحيد الذي تم اكتساحه هو أنا، تلاشت مدخراتي و ازدادت ديوني و غمرتني موجة غلاء حتى كتمت أنفاسي بلا رحمة. و ذات المسؤول يظهر كل عام ليتحدث عن متانة الاقتصاد و وفرة الميزانية و الرخاء القادم. يتحدث و إلى جواره معالي التاجر الكبير الذي يحتكر توريد ماركة سيارتي و يرفع في سعرها و سعر قطع غيارها كل بضعه أشهر دون رقيب، يلتفت المسؤول تجاه فضيلة التاجر ليشكره على حسه الإنساني و مجهوده الرائع في إيجاد فرص عمل للشباب العاطلين ولا ينسى بالطبع أن يهنئه بالجائزة التي نالتها شركته كأكبر موزع في العالم لشركه السيارات تلك. وطبعاً لا أحد يأتي على ذكر منظمة التجارة العالمية و التنافسية و الأسواق المفتوحة و كل ذلك الكلام الذي صدقه ساذج مثلي ذات يوم.
يبدو أنني مدين باعتذار لسعادة المسؤول المبجل عن سذاجتي التي حرمتني فهم المعنى العميق لكلامه الفخم و مدين كذلك بتهنئة لسعادة الوكيل الحصري...و أقول له ألف مبروك لقد ربحت الجائزة و المنظمة و الأنظمة و الشعب الذي تحتكره، فهنيئاً لك!


العبارات ذات اللون الأحمر لم تنشر في جريدة الشرق