الجمعة، 6 سبتمبر 2013

"حياتي".. يالها من حياة! (٢)

ثمة كتب تترك أثرها العميق في وجدانك، تغير نظرتك للحياة و العالم من حولك، تأخذ بتلابيبك و تهزك حتى إذا تركتك لم تعد ذات الشخص الذي أمسك بالغلاف قبل ساعات. تلك العينة النادرة من الكتب لا تندرج تحت تصنيف معين و لا تقتصر على ما يخطه الأدباء، بل قد تكون كتب في مجال الفلسفة أو التاريخ أو السياسة أو الفن بتعريفه الواسع، لكن ثمة عوامل مشتركة تجمعها جميعاً: عمق الفكرة و سلاسة العبارة و الأهم من ذلك هو حرارة الصدق التي تنبعث من بين ثنايا السطور فتكاد تلسع أناملك و أنت تقرأ!.
كتاب "حياتي" لأحمد أمين هو أحد تلك الكتب النادرة، كتاب من كتب السيرة الذاتية التي تأخذ بيدك في رفق و تجول بك في عالم صاحبها بكل تجرد و تواضع بلا تصنع أو ادعاء، يحكي بعين الراوي فصول حياته الحافلة، يمزج ببراعة بين وصف المشاهد و الأماكن و الشخصيات و بين مشاعره و انطباعاته تجاهها، و كيف أثر ذلك الموقف أو تلك الحادثة في مسار حياته الحافل.
أحمد أمين صاحب فجر الإسلام، و ضحى الإسلام، و قائمة مهمة من الكتب، و عميد كلية الآداب في جامعة القاهرة، و رئيس تحرير مجلة الثقافة العريقة، و لجنة التأليف و الترجمة و النشر في عصرها الذهبي، يطرح عن نفسه كل تلك الألقاب و يلاقيك في الكتاب بكل تواضع و إنسانية، يحكي عن حزنه الدائم و يحاول أن يجد له تبريراً بوفاة شقيقته في الوقت الذي كان حملاً في بطن أمه فيقول (تغذيت دماً حزيناً، و رضعت بعد ولادتي لبناً حزيناً، و استقبلت عند و لادتي استقبالاً حزيناً، فهل كان لذلك أثر فيما غلب علي من الحزن في حياتي فلا أفرح كما يفرح الناس، و لا أبتهج كما يبتهجون؟)، يحكي عن بيتهم الصغير المفروش بالحصير، عن راتب أبيه المتواضع، و عن إخوته الذين تخطفهم الموت و المرض، و أمه التي تحملت مشقة الحياة بصبر و رضا، عن حارتهم الضيقة، عن الجيران، عن النساء في ذلك الزمان و حجابهن و طريقة مشيهن في الحارة، عن الأزهر و حلقاته و توهانه في دراسته، ثم انتقاله إلى المدرسة النظامية، عن دارسته اللغة الإنجليزية بجهد شخصي في المنزل ثم على يد معلمة انجلزية أعجب بها لاحقاً و لكنه لم يصارحها بذلك الحب!. عن انتقاده للوضع السياسي في خطبة حماسية في إحدى الحفلات و ما كادت تجره عليه من أذى، عن رفاقه في طريق البحث و المعرفة، عن طه حسين تحديداً، و كيف تلازما ثم افترقا دون أن يبين السبب و إن كان يحتفظ له بالود و الفضل.
عن حيرته بين عمامة الأزهري، و طربوش الأستاذ الجامعي، عن حرمانه من لقب الدكتوراه و المناصب و تحويلها لغيره في مواقف عدة بسبب آرائه السياسية، عن رحلاته المتعددة حول العالم، ثم محطته الأخيرة مقعداً في المنزل شبه كفيف محروماً من متعته الوحيدة في الحياة و هي مرافقة الكتب.

حياة حقيقة حافلة ستنبعث بين يديك و أنت تمسك دفتي الكتاب.. حياة تصيبك بشيء من الحسرة على ما آلت إليه مصر اليوم.. و ما آل إليه حال الثقافة فيها من ترد.

الجمعة، 16 أغسطس 2013

يوتوبيا

يوتوبيا.. حيث الثراء و النفوذ و الأحلام الفارهة.
حيث كل شيء متوفر و رخيص بل و بلا ثمن يذكر..حيث يشعر أبناء الأثرياء بالملل من تلك الحياة الباذخة المرفهة، أبناء الأثرياء الذين يملكون اقتصاد البلد و تدفق عليهم الثروات بلا حساب.
حيث مراد بيه ملك الدواء و منصور بيه ملك الحديد و بقية الشلة وقد صنعوا عالمهم المثالي بعد أن ضاقت بهم الأرض و عافوا مجاورة الفقراء.
في عام ٢٠٢٣ م ستكون مصر قد انقسمت إلى جزءين، جزء مرفه نقي فاحش الثراء يسكن محمية خاصة في الساحل الشمالي يقوم على حراستها جنود متقاعدون من المارينز. و جزء آخر هو بيقية الشعب يعيش في فقر مدقع بلا حكومة أو خدمات تسيطير عليه البلطجة و الأمراض و يبيع كل ما هو متاح. في عالم يوتوبيا كما في خارجها لا قيمة للعلم أو المعرفة و الشيء الوحيد الذي لا يُسرق و لا ثمن له هو الكتب.
و لأن الشباب المدلل في يوتوبيا يشعر بالملل و لم تعد تشبع غرائزه كل الموبقات التي يرتكبها و لا كل المخدرات التي يتعاطاها لأنها أصبحت آمنة و رخيصة و بالتالي فقدت أهم ميزة جاذبه لها و هي الإثارة المصاحبة لها،و لذعة الخوف و الخطر من عواقبها. لذلك يقدم شباب يوتوبيا على عمل أكثر خطورة و يبعث على إثارة حقيقية، يجربون القيام برحلات (صيد) خارج يوتوبيا، يتسللون إلى حيث المدينة القديمة و الفقراء البائسون، يخطفون أحدهم و يعودون به إلى الديار، يتسلون بمطاردته و اقتاصه و لا بأس بتحنيط أجزاء من حثته على سبيل التفاخر!. هنا يقرر إبن مراد بيه أن يجرب حظه مثلهم، أن يغادر يوتوبيا ليذوق متعة الخطر و يعود بصيد من هناك، يصطحب صديقته و ينطلق، يتعثر في أولى خطواته و يكاد يقتل من قبل (الرعاع) قبل أن ينقذه جابر. جابر أحد هؤلاء الرعاع لكنه أكثر تحضراً، جابر يقرأ كثيراً في الكتب التي يجدها في القمامة، جابر مثل بني قومه فقير حاف و مشوه، لكنه لسبب ما يقرر أن ينقذ هذين الأحمقين القادمين من يوتوبيا، يبقيهما في بيته مدعياً أنهما من معارفه، و يدبر لهما خطه لعودة آمنه إلى الديار عبر أنفاق تحت الأرض، و قبل أن يودعهما عند نهايه النفق يقوم ابن مراد بيه بقتله و قطع يده ليصطحبها معه كتذكار يباهي به أفراد الشلة، فرغم كل شيء يظل جابر واحدا من الأغيار الذين لا يستحقون الحياة. يحتفل الشاب بعودته الظافرة لكن ما فعله كان الشرارة التي أشعلت الثورة خارج الأسوار، و خلال أيام تحتشد الجموع الغاضبة على الأسوار تطالب بالثأر، الجموع التي وصفت لزمن طويل بالخراف التي يستحيل أن تثور لكنها الآن و في لحظة نادرة قررت أن تفعل، الصخرة التي تحملت الكثير من الضربات قررت أن تتفتت عند الضربة الخمسين، ليست الضربة الخمسون هي من فعلت ذلك لكنه مجموع الضربات!.

هذا هو ملخص رواية صغيرة الحجم بعنوان"يوتوبيا" صدرت في عام ٢٠٠٨ للكاتب أحمد خالد توفيق، و كانت من الروايات التي تنبأت بثورة قادمة في مصر، رواية لا تخلو من أجواء كابوسية تحمل بصمة جورج أورويل في نسخة معاصرة لكنها صادقة و آسرة في ذات الوقت. لا تخبرنا الرواية بما سيجري بعد الثورة و لا بالمستقبل الذي ينتظر الفريقين و الذي يبدو للأسف أنه سيكون أكثر دموية و إثارة على أرض الواقع!

أحكام قتل المخالف!

هذه دراسة شرعية مؤصلة كتبها أستاذان يُدرِّسان في معهد للتعليم الديني و نشرت ضمن مطبوعات المعهد، دراسة أثنى عليها و زكاها عدد من رجال الدين و كتب مقدمتها قاض في المحكمة العليا، بل إن إدارة المعهد دافعت عن مضمون الدراسة بقولها "إن الكتاب يقوم بشرح جاد لمسألة في الشريعة، و إن الباحيثن كانا على قدر المسؤلية.. و كبار الدارسين يعرفون للكتاب مكانته العالية و إسهامه في أدب التشريع في العصر الحالي".
جاء الكتاب مقسماً لستة فصول كلها تتحدث عن أحكام القتل في ظروف مختلفة، بين السلم و الحرب، و لكن أهم النقاط المثيرة في الدراسة هي تلك التي تتحدث عن قتل المدنيين غير المحاربين و عن قتل الأطفال من أبناء الكفار، فتورد الدراسة في خلاصة الفصل الرابع"و على الرغم من ذلك فإن أي فرد ينتمي لشعب العدو يعد عدواً لأنه يساعد القتلة، و بالتالي يحل قتله، فقد وجدنا في الشريعة أن المخالفين بصفة عامة موضع شك و " كما يرى المؤلفان أنه يحل قتل أبناء الزعيم المعادي من أجل الضغط عليه، و إن كان قتل أطفاله سوف يردعه و يمنعه عن الشر فيجب عدم التردد في قتلهم!.
لا يؤتمنون على الدماء و بما أننا في حرب معهم فيحل قتل حتى الأطفال و الرضع الذين لم يقترفوا أي ذنب لأننا إن تركناهم فسوف يشكلون خطراً و سوف يصبحون أشراراً مثل أهليهم
و قد رفض الباحثان إجراء أي مقابلات صحفية لأنهما يرفضان التعامل مع الصحف العلمانية التي لا تلتزم بالشريعة!.
لعلك الآن تتساءل من هما هذان الباحثان؟ و إلى أي فكر متطرف ينتميان؟ و كم هو عدد الجماعات الإرهابية التي استخدمت تلك الفتاوى في جرائمها؟
حسناً لا تندهش إن قلت لك أن الباحثان هما حاخامان يهوديان مقيمان في فلسطين المحتلة، و أن بحثهما كتاب نشر بعنوان "توراة الملك..أحكام قتل غير اليهود"و قد استعرضت استاذة الدراسات التلموذية د. ليلى أبو المجد فقرات من الكتاب في مجلة وجهات نظر المختصة بالكتب (العدد١٣٥) و استعرضت كذلك ردود الفعل تجاهه في المجتمع اليهودي و الضجة التي رافقت صدوره، حيث قامت جماعة من دعاة السلام اليهود برفع قضية ضد المؤلفين في المحكمة بتهمة التحريض على القتل لكن المحكمة لم تلتفت للقضية، رغم أن عدداً من المستوطنين الذين ارتكبوا جرائم قتل ضد الفلسطينيين أقروا أنهم استندوا إلى فتاوى الكتاب و فتاوى مماثلة!.
كيف تتسامح محاكم إسرائيل الديموقراطية مع تيار متطرف بهذا الشكل؟ و كيف تسمح قيمها الغربية المتحضرة التي تتشدق بها بمثل هذه الجرائم الفكرية؟

الجواب يكمن في عبارة بسيطة "فتش عن العنصرية". العنصرية و ليس التطرف هو سبب جرائم العنف و القتل و الاضطهاد في أي مجتمع، سواء كان المجتمع متديناً محافظاً أو ليبرالياً منفتحاً، ديموقراطياً أو دكتاتورياً، غنياً أو فقيراً. العنصرية عندما تتغلغل في مجتمع ما تقوم بنزع الصفة الآدمية عن بعض أفرادة و تعطي تصريحاً ضمنياً للمتطرفين بالبطش بتلك الفئة تحت مختلف التسميات سواء كانت باسم الدين أو العرق أو الجغرافيا. لذا تجد ذلك التطابق المذهل في اللغة و المصطلحات بين المتطرفين في مختلف الأديان و المذاهب لأن دافعهم الحقيقي ليس الدفاع عن الدين بل الدفاع عن أفكارهم العنصرية التي تنكرت في لباس الدين.



ماي لاي و النحاس الأخضر!

ثمة قصتان تستحقان الاهتمام، قصتان متشابهتان إلى حد كبير، رغم تباين الزمان و المكان بينهما، قصتان رغم أن إحداهما لا تخصنا بشكل مباشر، إلا أن كليهما مفيدتان جداً في ضرب المثل على معنى كلمة (صحافة) و (صحفي حر) في مواجهة التضليل و التعمية مهما كان مصدرهما.
نبدأ بالقصة الأحدث،في عام ٢٠٠٤ ، في العراق تحديداً، و بينما يحتفل جورج بوش الإبن بما وصفه النصر الباهر للديموقراطية، و اقتلاع الديكتاتورية من الشرق الأوسط، بدأت سلسلة مقالات و تقارير تنشر في الولايات المتحده عن فظائع ارتكبها جنود الاحتلال في سجن أبو غريب، الفظائع كانت موثقة بال"النحاس الأخضر". كانت تلك التقارير فضيحة مدوية ألقت بأثرها على كل إداره بوش و تسببت في إسقاط رؤوس كبيرة بينها وزير الدفاع ذاته. و جعلت الإدارة الأمركية تنغمس في التبريرات و مواجه استجوابات الصحافة و الرأي العام لفترة طويلة أدت إلى انهيار الدعم الشعبي لعملية الاحتلال و رحيل الجمهورين عن الحكم.
صور و الشهادات، و ما لم يعرفه كثير من الناس أن ذلك التعذيب لم يكن وليد نزوات الجنود المتحمسين بل جزء من خطه منهجية و ضعها وزير الدفاع الأمريكي رامسفيلد من أجل انتزاع الاعترافات و تحطيم مقاومة المعتقلين سبق و أن استخدمت في أفغانستان و جوانتانمو و سميت ببرنامج "النحاس الأخضر". كانت تلك التقارير فضيحة مدوية ألقت بأثرها على كل إداره بوش و تسببت في إسقاط رؤوس كبيرة بينها وزير الدفاع ذاته. و جعلت الإدارة الأمركية تنغمس في التبريرات و مواجه استجوابات الصحافة و الرأي العام لفترة طويلة أدت إلى انهيار الدعم الشعبي لعملية الاحتلال و رحيل الجمهورين عن الحكم.
القصة الثانية حدثت قبل أربعة عقود، عام ١٩٦٩ تحديداً، فرقة غاضبة من الجيش الأمريكي في فيتنام قررت أن تنتقم لبعض خسائرها من الثوار، قام قائد الفرقة بمحاصرة قرية تدعى ماي لاي، من الوهلة الأولى اتضح أن القرية خالية من المقاتلين و أن كل سكانها من النساء و الأطفال و كبار السن لكن ذلك لم يمنع الجنود من اقتحامها بل زاد من سعارهم، جمع الجنود السكان خارج المنازل، ثم قامو بإحراقها، اغتصبوا الفتيات، قتلوا السكان جميعاً، تنوعت أساليب القتل بين الذبح و الحرق و إطلاق النار العشوائي، و مع نهاية الهجوم تمت إبادة القرية بشكل كامل. تم التكتم على الخبر، حتى تمكن صحفي شجاع من جمع خيوط القصة و بادر بنشرها، كانت صدمة مدوية، أثارت ردود فعل عنيفة، و أعطت دفعة قوية للحملة المناهضة للحرب، و أخضع قائد الفرقة للمحاكمة التي قضت بسجنه مدى الحياة.
حسناً، قد يبدو الرابط بين القصتين هو بشاعة و همجية الاحتلال الأمريكي رغم البروباجندا التي تروج له، ذلك صحيح ولا شك ولكن الرابط الأهم و الأعمق هو أن من فضح ذلك الجيش في كلا المرتين هو الصحفي ذاته، صحفي أمريكي يدعى "سيمور هيرش"، صحفي مستقل يكتب في صحافة بلاده، ورغم إحراجه لحكومه و جيش بلاده بتلك الفضائح لم يخون و لم يعتقل، بل تم تكريمه بعدد لا يحصى من الجوائز. سيمور هيرش رغم أنه يعد أقلية وسط التيار السائد إلا أنه يمثل المعنى الحقيقي للصحافة المستقلة كسلطة رابعة، سلطه أمينة على المجتمع تراقب أداء المؤسسات الحكومية و تكشف انحرافها. سلطة بمثابة إشارة مرور حمراء تمنع التجاوزات على الطريق أياً كان مستخدم ذلك الطريق.
إن أهم مقاييس تحضر المجتمعات ليس في نظافة شوارعها أو انسيابية مرورها أو علو و جمال مبانيها،بل هو في قيم احترام الحكومات لضوابط القانون، واحترامها لاستقلالية صحفها التي تراقب تطبيق ذلك القانون.



فساد أم نقص كفاءة؟

أثارت موجة السيول الأخيرة التي غمرت عدداً من المدن في البلاد حملة انتقادات عنيفة على مواقع التواصل الاجتماعي ضد الفساد الذي نتج عنه ضعف البنية التحتية و انهيارها بسبب قطرات من المطر. إلا أن كاتباً اقتصادياً شهيراً، له عدد كبير من المتابعين و له برنامج تلفزوني يذاع في قناة اقتصادية انتقد تحميل الفساد وحده مشكله سوء تصريف السيول و كتب ما مفاده (هل كل مشاكل السيول سببها الفساد؟ أليس هناك اسباب أخرى كانعدام الكفاءه و سوء التدبير؟)
يبدو السؤال للوهلة الأولى وجيهاً، فلماذا نحمل الفساد وحده كل مشاكلنا؟ أليس من الممكن أن تنتج تلك المشاكل بسبب قرارات خاطئه اتخذت بحسن نية؟ قرارات قد يكون سببها نقص الخبرة أو نقص المعلومة أو غياب الإبداع و ليس نية التربح و الإضرار بالآخرين؟ ألسنا نواجه في حياتنا اليومية على المستوى الفردي أمثلة مشابهة؟ ألسنا نغفر لأشخاص زلات و أضرار تسببوا بها لأننا نعرف أنهم اتركبوها بحسن نية؟.
لكن هل يصلح تطبيق هذه الأمثلة على الدول؟ هل يمكن أن تتخذ دولة ما قرارات خاطئة لأن شعبها أقل ذكاء و حكمة من الشعوب الأخرى؟
هذا السؤال المحير طرحه (تيم هارفورد) في كتابه (المخبر الاقتصادي) و ليحصل على جواب شاف قرر أن يقوم بزيارة لأحد أكثر دول العالم فساداً و هي الكاميرون و التي يتراوح تصنيفها بين المركز الأول و الخامس على قمة الدول الفاسدة، يقول هارفورد: بإمكان أي زائر للكاميرون يرى الفقر و سوء الخدمات أن يهز كتفيه و ينسب ذلك إلى حمق شعبها الذي لا يحسن التدبير و لا يملك الكفاءات، لكن الصورة الحقيقة أكثر تعقيداً، ففي الحقيقة الشعب الكاميروني ليس أكثر ذكاء أو أكثر غباء من باقي الشعوب، و مستوى دخل المواطن الكاميروني يتضاعف عشرات المرات بمجرد هجرته و حصوله على عمل خارج البلاد، إذن أين يكمن الخلل؟
يضرب المؤلف مثالاً بمدرسة نموذجية قرر زيارتها هناك، المدرسة تحظى بدعم لا محدود من الحكومة و يدرس فيها أبناء المسؤولين، في وسط الفناء هناك بناء ضخم من طابقين لمكتبه، مكتبه وصفها بأنها أسوأ مكتبة في العالم!.لماذا؟ لأن سقف المبى صمم على شكل كتاب مفتوح يشبه حرف (v) مما جعله مصفاه كبيره لتجميع الأمطار التي تصب بشكل مباشر داخل المبنى و الذي تحولت أرضيته الداخلية إلى مستنقعات و برك و تلفت جدارنه بالكامل. و الأعجب أن مديرة المدرسه قررت بناء المبنى دون حاجة فعلية له حيث أن لديها مبى آخر للمكتبه يتسع لثلاثه أضعاف الكتب الموجودة. لماذا فعلت ذلك؟ لأنها رغبت في تحويل المدرسة إلى جامعه، فقررت بناء مبنى لا تحتاجه، و لأن لا أحد يراقب النفقات أو سلامه المخططات بسبب المحسوبية كانت تلك هي النتيجة، إهدار للموارد و بناء عديم الجدوى دون أن تُحاسب أو تُعاقب المديرة ذات النفوذ
يضيف هارفورد: (المسؤولون الطموحون الذين يشغلون مناصب حكومية و يسعون وراء مصالحهم الخاصة موجودون في كل مكان في العالم، لكن في كثير من البلدان تنجح القوانين و الصحافة و المعارضة الديموقراطية في وضع هؤلاء تحت السيطرة و لكن المأساه في الكاميرون هي أنه لا يوجد شيء يضع المصالح تحت السيطرة)

ترى إلى أي حد نشبه الكاميرون؟ و ما مدى قدرة قوانيننا و صحفنا على كبح جماح الفساد؟ أخشى أن تكون الإجابة مرعبة!


العبارات باللون الأحمر لم تنشر في الجريدة!

لعنة "البروباجندا"!

تفتح جهاز التلفزون، تنطلق الموسيقى الحماسية، و صوت المذيع المتأنق يتخللها و هو يردد، مالذي تنتظر؟ اتصل الآن لتحقق حلمك، الملايين بانتظارك. صور متتابعة لنقود تنهمر من السماء، و وجوه سعيدة منتشية، يفترض أنها لفائزين سبقوك بالاستجابة للنداء الساحر.
أنت تعرف أن تلك المسابقة أقرب إلى عملية نصب فاخرة، لكن الصوت الملحاح يطاردك، الابتسامات السعيدة، و الحلم الذي ربما يتحقق بحصولك على الملايين الكفيلة بحل جميع مشاكلك تجعل قناعاتك تهتز، و كل مره يتكرر فيها الإعلان، ينمو شرخ جديد في قناعاتك الثابتة، حتى تنهار تماماً بعد عدد لابأس به من التكرار، و تجد نفسك متقبلاً فكرة الاتصال التي لا ضرر منها و التي ربما تحقق حلمك البعيد. ذلك السيناريو الذي نتعرض له جميعاً كل يوم هو مثال عملي مصغر لمصطلح "البروباجندا".
و كي لا نخوض كثيراً في التعاريف الجامدة للبروباجندا فيمكنك اعتبارها أي محاولة للتأثير على الأفراد عن طريق الدعاية المضللة أو المنحازة و غير الموضوعية. تلك البروباجاندا قد تكون تجارية محضة كالإعلانات التي تحاصرك كل يوم، وهي رغم فجاجتها تظل أقل ضرراً من الأنواع الأخرى للبروباجندا كالسياسية أو الثقافية أو الدينية، فالأخيرة تتسلل إليك من حيث لا تشعر و تؤثر في قراراتك و أفكارك و توجهاتك، بل و في تحديد مصيرك. تتسلل إليك عبر نشرات الأخبار التي تعاد صياغتها بطريقة احترافية أو.. غبية!، عبر البرامج الحوارية التي يستضاف فيها شخصيات شهيرة تكرر رسائلها بأساليب مؤثرة، عبر عناوين الصحف و المقالات التي تصر على إقناعك بذات الفكرة و أنه لا صواب سواها.
لكن كيف تعرف الفرق بين الحقيقة و بين البروباجندا؟ بين المعلومة التي تزيدك وعياً و العبارة التي تخدرك و تغيب ذلك الوعي؟
يمكنك الاستدلال على البروباجندا بالتعرف على بعض الأساليب التي يمارسها عرابوها، فصانعوا البروباجندا يميلون غالباً إلى مخاطبة العواطف بدلاً من العقل، لذلك تجدهم يجيدون شيطنة و تشويه الأفكار الأخرى، يجيدون التهويل من المصير المظلم لو خالفتهم، يركزون على مهاجمة مصداقية المنافسين بدلا من مناقشة أفكارهم.
صانعوا البروباجندا حريصون على ربط أفكارهم بشخصيات محبوبة و ذات شعبية، و إن عدمت تلك الشخصيات فلا بأس من الاستعانه بالسلطة و تصويرها كداعم لا محدود لأفكارهم و عدو لكل من يخالفها.
مروجوا البروباجندا يفهمون جيداً نفسية الجماهير، لذا يركزون على عبارات الأمن و الأمان، و اختيار الجماعة، و الفرقة الناجية بغض النظر عن من تكون تلك الفرقة الناجية. و لأنهم يركزون على العواطف فهم يفضلون أن يمنحوك إجابات بسيطة و حاسمة لكل الأسئلة، إجابات من طراز أبيض أو أسود معنا أو ضدنا و هذا خير و ذلك شرير.ثم وذلك هو الأهم فإنهم لا يملون تكرار ذات الفكرة، التكرار هو اللمسة السحرية التي تأتي بالعجائب.
تأمل الآن يا صديقي هذه الأساليب و تذكر كم مرة مورست أمامك،تذكر مواقف كثيرة لاتحصى في المشهد المحلي تمت فيها تنحية العقل جانباً و تقديس البروباجندا، مواقف مضت كفتنة تعليم البنات، و فتنة البث الفضائي. و مواقف معاصرة و مواقف ستأتي في المستقبل..

في أحيان كثيرة تكون البروبجندا هي سبب كوارثنا التي نعيشها.. و كم هو سهل أن نتجنبها لو قررنا فقط أن نبتعد قليلاً عن صخب القطيع و أن نستخدم المادة الرمادية التي تسكن جماجمنا في الحكم على المواقف و الأحداث!


الخميس، 6 يونيو 2013

ما هو الموت؟


تحكي معلمة الروضة لبراعمها الصغار و صفاً مبسطا و محبباً للجنة و نعيمها، تعود الطفلة الصغيرة إلى منزلها و هي مبهورة الأنفاس بالوصف الذي سمعته لذلك المكان الرائع حيث كل شيء فيه جميل و متوفر بكثرة، تحكي لأختها التي تكبرها بأعوام عن الجنة، و تسألها في براءة: متى أذهب إلى الجنة؟. تجيبها أختها بلا مبالاه:( بعد الموت). تغضب الطفلة الصغيرة و تصاب بالهلع، تهرع إلى أمها محتجة، لا أريد أن أموت، أريد أن أذهب إلى الجنة دون أن أموت!.
كيف عرفت تلك الطفلة الصغيرة معنى الموت؟ و لماذا أصيبت بالفزع منه رغم أنها لا تعرفه؟ ربما سمعت عنه عبارات و أحاديث متناثرة لكن وعيها و إدراكها لا يصل إلى درجة الفهم التي تجعلها تتخذ موقفاً حاسماً كالذي اتخذته. ترى هل نختلف نحن في تصرفاتنا عن تصرفات تلك الطفلة الصغيرة؟
ألسنا رغم يقيننا بأن الموت هو مصيرنا المؤكد نمارس رفض الموت و إنكاره في كل لحظة؟ ألسنا نندهش و نعجب عندما يأتينا خبر موت فلان من الناس كأنه ليس من المعقول أن يموت أحد؟
تبدو علاقتنا مع الموت علاقة معقدة بعض الشيء، فرغم يقيننا الأكيد بحدوثه إلا أننا نبذل المستحيل لتجنبه، نجرب كل الوسائل لنحافظ على بقائنا متشبثين بالحياة لأطول وقت، بل نحاول التحايل على الموت بحثاً عن الخلود بشتى الطرق، نحب و نتزوج كي ننجب أبناء (يحملون إسمنا) بعد رحيلنا، نكتب و نرسم و نخترع و نبدع في شتى المجالات كي (يخلد) ذكرنا على مدى الأجيال. نتنافس و نتصارع و نخوض الحروب،كي نخط تاريخاً( يذكر أمجادنا) و إن كانت مضرجةً بدماء غيرنا.
نعرف أن الموت سنة الحياة و أنه وسيلة لإعمار الكون و تجديد شباب الأرض برحيل بشر و كائنات و ولادة أخرى لكننا نظل نشعر بذات الرهبة و الدهشة كلما واجهنا الموت وجها لوجه، لماذا؟ لأنه يهز كبرياءنا من الداخل يقتحم حرزنا الأمين الذي لا يدخله أحد و لا يعرفه سواك، غرفتك الداخلية شديدة الخصوصية حيث تحتفظ بذكرياتك و أحلامك و أفكارك و أسرارك الصغيرة و الكبيرة، وحده الموت من يجرؤ على اقتحامها، على جعلها و جعلك مشاعاً بين الناس بلا خصوصية أو حجاب. لذلك نبادر إلى الهروب و إنكار حدوثه، إلى تحاشيه و التشبث بالحياة.
و لكننا في لحظات معينه من الخصام مع الحياة نعود لنتطلع إلى الموت في فضول،في رغبة خفية لعبور الجسر المغلف بالضباب، في اللحاق بمن ذهب ممن نحب. تلك الرغبة في الموت و التي تتجلى على استحياء حيناً و بقوة حيناً آخر تبدو أشبه بالغريزة العميقة في الإنسان، غريزة تتلاعب بعواطفة و أعصابه و أفكاره، تكون دافعاً للإبداع حيناً و مركزاً للصراعات و العواصف النفسية حيناً آخر ، علماء الأحياء يعرفون جيداً أن الخلية تمر بمرحلة تقرر فيها التوقف عن العمل و الانقسام و تبدأ في تدمير نفسها ذاتياً و يسمون هذه المرحلة بموت الخلية المبرمج. أليس من المنطقي أن يحتفظ الإنسان المكون من ملايين الخلايا بذات الدافع البدائي؟ ثم ألم تتعامل الشرائع السماوية مع الموت كما تتعامل مع أي غريزة فطرية أخرى؟ فهي من ناحية تحرم و تحذر من الانتحار و من ناحية أخرى ترغب و تحث على الجهاد و الاستشهاد في سبيل الله. تماماً كما تضبط غريزة الجنس عند الانسان بتحريم الزنا و الحث على الزواج!.


وزارة الحب


كان موظفاً مجتهداً، يعمل محرراً في "وزارة الحقيقة". وزارة الحقيقة هي المسؤولة عن سلامة أفكار الناس و معتقداتهم و عن حمايتها من التلوث و التأثير الخارجي، يقوم بطلنا بمهمة جليلة، و هي تعديل و تغيير المواد المنشورة قديماً في الصحف لتناسب الرؤية الجديدة للحزب، فمثلاً إذا قال الحزب بأن الدولة تتحالف مع دولة استاسيا ضد دولة أوراسيا فلا بد أن تتغير كل الصحف و الأفلام و الكتب التي كانت تقول بأن الدولة سبق أن حاربت استاسيا أو تحالفت مع أوراسيا. كذلك كان من وظائفه المهمة أن يمحو ذكر أي شخص تقرر الدولة التخلص منه، فلا يكفي إعدامه بل ينبغي محو ذكره تماماً من كل المنشورات و الوثائق القديمة فأعداء الحزب لا يستحقون حتى الذكرى.
كان من ضمن مشاريع وزارة الحقيقة كذلك العمل على إصدار معجم لغوي جديد يحذف الكلمات النابية من طراز (ثورة، تمرد، استقلال، حرية)، حتى لا تفسد أفكار الناس و تنحرف توجهاتهم
كان يعلم أن الأخ الأكبر يراقبه، كان يشاهد صورته الضخمة المهيبة في الشاشات العملاقة، و يشعر بحرارة النظرة الفاحصة المحدقة خلف الشاشة، الأخ الأكبر يعرف كل شيء. يراقب الناس عبر الشاشات و الكاميرات الخفية و الجواسيس المخلصين. لكنه لم يكن يحب الأخ الأكبر، و لم يحب طريقة الحياة الخانقة التي يمنع فيها كل شيء حتى الحب، الحب الذي قاده للتمرد عندما التقى جوليا، زميلته في الوزارة و التي بادلته الحب سراً و قررا التمادي رغم أوامر الحزب، و لأنه يحبها قرر أن يكون ثورياً و التقى بأحد قادة تنظيم الثوار الذي وعده بأن يضمه للتنظيم و أعطاه كتاب التعليمات الممنوع، لكن الأمور تبدلت سريعاً فسرعان ماداهمت "شرطة الأفكار" غرفته لتقبض عليه بالجرم المشهود مع جوليا، و ليكتشف أن قائد الثوار المزعوم هو رئيس شرطة الأفكار، بل إن صاحب المنزل الذي منحه الغرفة عضو في شرطة الأفكار كذلك. أي أنه كان مكشوفاً للأخ الأكبر منذ اليوم الأول!.
يتم تحويله لوزارة تسمى "وزارة الحب" كي تعيد إصلاحة و تجعل حبه خالصاً للأخ الأكبر فقط. يتولى رئيس شرطة الأفكار الذي اصطادة مهمة تعذيبة شخصياً، يخبره بأن عليه أن يتعلم، يتفهم، و يؤمن بحب الأخ الأكبر وحده، يتعرض للصدمات الكهربائية و شتى أنواع التعذيب يعترف بجرائم لم يرتكبها قط، لكنه ظل محافظاً على حبه لجوليا و كراهية الأخ الأكبر، هنا يبعثونه للغرفة ١٠١ حيث آخر وسائل الإصلاح، يستخرجون أعمق مخاوفه ويجسدونها، كان يخاف الفئران بشده لذلك وضعوا رأسه في قفص ممتلئ بالفئران الجائعة انهار أخيراً و صرخ انقذوني و ضعوا جوليا مكاني. لقد رضخ و تم إصلاحه، أصبح يحب الأخ الأكبر و يؤمن بأفكاره و يكره جوليا. مرة أخرى تنجح وزارة الحب في إصلاح مواطن ضال و تنتزعه من هوة الانحراف.
ذلك عزيزي القارئ ملخص مُخل لرواية "١٩٨٤" للكاتب العبقري جورج أورويل و التي كتبها قبل ما يزيد على ستين عام، أعد تأملها و قم باستبدال الأسماء و المصطلحات بعشرات البدائل للأحداث التي من حولك و سيدهشك كم ستبدو مناسبة و مطابقة بشكل مذهل!


العبارات باللون الأحمر لم يتم نشرها في الجريدة


هذه البوابة صنعت لأجلك فقط!


هناك قصة رمزية شهيرة للكاتب فرانز كافكا تتحدث عن رجل قروي قرر أن يسافر ليقابل القانون، و عندما وصل و جد بوابة عظيمة يقف أمامها حارس ضخم بشع الملامح، سأله القروي أن يسمح له بالدخول، فأجابه الحارس بأن الدخول ممنوع الآن. عاد القروي ليسأله إن كان سيسمح له بالدخول في ما بعد؟. أجابه بأن ذلك وارد و لكن عليه الانتظار. جلس القروي أمام البوابة ينتظر دوره لأيام، و تطاولت الأيام لسنوات و هو يقف أمام الحارس مستعطفاً، قدم له كل زاده الذي أتى به من القرية كرشوة ليسمح له بالمرور، لم يكن الحارس يرفض أي شيء، لكنه يكرر في كل مره قوله (أنا أقبلها فقط مراعاة لمشاعرك كي لا تشعر أنك لم تبذل الجهد الكافي لمحاولة الدخول!). كان القروي يستنكر الأمر في البداية بصوت عال لكن هيبة الحارس جعلت صوته ينخفض مع الأيام حتى تحول لهمهات خافته، ضعف جسمه و خبا ضوء عينيه و هو ينتظر، و عندما حانت ساعة احتضاره و هو لازال ينتظر تجرأ ليسأل الحارس سؤالاً أخيراً بصوته المرتعش، قال له (كل الناس تناضل لكي تصل إلى (القانون)، فكيف يتفق أنه خلال كل هذه السنوات الطويلة، لم يتقدم أحد سواي ليتوسل الدخول؟).
سخر الحارس من سؤاله و حرص أن يصرخ في أذنه كي يسمع الإجابه بشكل واضح و هو يحتضر (لا أحد يستطيع الدخول من هذه البوابة، هذه البوابة صنعت لأجلك فقط، وسوف أغلقها الآن!).
الرجل المحتضر في القصة هو رمز للضعفاء و البسطاء في أي مجتمع حيث عليهم وحدهم دون غيرهم أن يواجهوا تلك البوابة، البوابة التي تصدهم عن الولوج لعالم المساواة و الحقوق، و بقدر تحضر المجتمعات و عدالتها تتضاءل تلك البوابة و تختفي، و بقدر ما تتفشى الديكتاتورية و الفساد بقدر ما تتكاثر تلك البوابات و تتعاظم، لكنها تأتي في شكل أكثر عصرية و خداعاً، هي لا تخبرهم مباشرة بأنهم لن يمروا أبداً ،فقط تضع لهم تلك الحواجز المستحيلة و تطلب منهم الانتظار،الانتظار إلى الأبد، في حين يعبر المتنفذون من الجهة الأخرى لينالوا كل شيء بلا حساب، بوابة هلامية غير واضحة المعالم تتخذ شكل الأنظمة و اللوائح المعقدة حيناً، و شكل الروتين الخانق و القوانين المعطلة حينا آخر، دوامات لا نهاية لها تجعل المرء يدور حول نفسه في سباق عبثي للحصول على العدالة التي ينتهي عمره دون أن ينالها و يموت و هو يعتقد أنه هو المقصر و أن دوره لم يحن بعد لينال ما يريد و أنه لو بذل جهداً أكبر لربما تحصل على بغيته.
في حوار تلفزوني مع كاتب عربي ألف رواية تنبأت بالثورة التي حدثت في بلده قال إنه كتبها بعد حادثة شهيرة قام فيها إبن عضو في الحزب الوطني الحاكم يعبث بدراجته البحرية السريعة بدهس شاب فقير قاده حظه التعس للتواجد أمامه، و كما هو متوقع و رغم الضغط الإعلامي و الغضب الشعبي تمت تغطية القضية و تبرئة الشاب العابث من دم الشاب الفقير. يقول المؤلف أحسست وقتها أن شيئاً كبيراً قد انهار و أننا على وشك شيء كبير قادم.
كان الذي انهار هو تلك البوابة العظيمة، ففي لحظة ما يمل الناس الانتظار، تتلاشى هيبة الحارس و البوابة و القانون ذاته، فجأة يقررون تحطيمها و التنكيل بالحارس و اقتحام ساحة العدالة التي حرموا منها لسنوات كي ينالوها بأنفسهم.



الثلاثاء، 14 مايو 2013

النوم.. بين مدح و ذم!



تتوتر، يضيق صدرك و لا ينطلق لسانك، يتعكر مزاجك و تشتعل أعصابك لتصبح أشبه بسلك مكشوف، لا تستيغ حديثاً،لا تبتسم لطرفة و لا تطربك أغنية.. تفقد تركيزك و تواصلك مع الدنيا، لماذا؟ لأنك تجاوزت ساعة نومك، و تمردت على نظام ساعة جسمك البيولوجية، فأعلن الجسد احتجاجه مطالباً بحقه في النوم.
و لكن لماذا ننام؟ لماذا نسلم تلك الساعات الثمينة من أعمارنا إلى السكون و السبات بلا عمل و لا انتاج و لا حتى ترفيه أو حركة؟ ما المقابل الذي نحصل عليه لقاء هذا الثمن الباهظ الذي ندفعه من أعمارنا؟
يحظى النوم بسمعة سيئة عند فئتين متناقضتين، عند أهل الذكر و الطاعة من العباد و النساك، و عند أهل الهوى الذين شغلوا الدنيا بقصائد السهاد و الحنين و جفاء الحبيب الذي ينعم بالنوم و يتركهم سهارى معذبين و يعبر عن حالهم قول أبي نواس:

نَـفَـرَ النّـوْمُ واحْـتَمَـى
منْ جـنُـوني ؛ كـأنّمـا
هُوَ أيضاً منَ الْحَبيبِ
جَفَاءً تَعَلّمَا

و على العكس من الفئتين ينظر علماء النفس و الأحياء للنوم بنظرة فيها الكثير من الهيبة و الاحترام، فهم يعلمون جيداً أن النوم رغم أنه شبيه الموت إلا أنه قرين الحياة، و كل حيوانات التجارب التي حرمت النوم في المعامل ماتت بعد فترة قصيرة من المعاناة. "علم النوم" لايزال في مراحلة الطفولية إلا أن ما تكشف منه يوحي بالكثير من الأسرار و التعقيد، الإنسان عندما ينام يتحول إلى شجرة، كما يصفه مصطفى محمود، يفقد اتصاله الواعي بالدنيا و يتعطل الجزء الراقي من كيانه عن العمل، يبقى فقط الجزء البدائي منه نشيطاً، كأنه شجرة أو طحلب مائي!. لكن أجزاء أخرى من الجسد تنشط و تدار فيها ورشة عمل عالية الصخب.
فخلال النوم يقوم الجسد بعملية ترميم و بناء للأنسجة، يقوم المخ نتطوير و تحسين الخلايا العصبية، يكتسب الأطفال  أعلى معدلات النمو خلال نومهم، ليس ذلك فحسب، بل تنشط المناعة و تزداد قدرة الجسم على مقاومة المرض خلال فترة النوم.
نفسياً يعتبر النوم فسحة مهمه لتنفيس الضغوط التي نحياها خلال النهار، فرصة لتشتغل آله الأحلام الهادرة بكل المشاعر المكبوتة، لتصوغ كل الخيبات و الانتصارات و النزوات في مسرح فانتازي ممتد لا يحده زمن و لا يحكمه قانون، مسرح أنت بطله الوحيد و كل ما تنوي تحقيقه متاح و سهل.
النوم كذلك يسمح لك بتنظيم ملفات ذاكرتك، بطرد الأحداث الهامشية و تثبيت الأحداث الأكثر أهمية.
عندما تنام فأنت تسمح لذهنك بأن يشحذ قواه مجدداً، بأن يجعلك أكثر قدرة على استرجاع ما قرأته أو تعلمته من قبل لذا من الأجدى أن تغير الحكمة الشهيرة إلى "أجل عمل اليوم إلى الغد" كما يقول الكاتب الراحل "أحمد مستجير" ، حيث أن الأشخاص الذين حصلوا على قسط جيد من النوم بعد عملية التعلم أظهروا قدرة أكبر على استرجاع ما تعلموه حتى بعد أيام.
 و بالعودة إلى الشعراء العشاق، نجد أن شاعراً واحداً منهم أدرك شيئاً من تلك الفوائد العظيمة للنوم  خلاف البقية الذين تحالفوا على ذمه، فيقول قيس لبنى:
وإنّي لأهوى النَّوْمَ في غَيْرِ حِينِهِ
لَعَلَّ لِقَاءً في المَنَامِ يَكُونُ
تُحَدِّثُني الأحلامُ أنِّي أراكم
فيا لَيْتَ أحْلاَمَ المَنَامِ يَقِينُ

أسعد الله أوقاتكم في صحوكم و نومكم


كرات زجاجية و حلوى نعناع



مالذي يدفعك لفعل الخير؟ لا أعني هنا تلك الريالات التي تدفعها كصدقة لمتسول؟ ولا بعض الكلمات المنمقة التي تقولها في موقف معين، ما أعنيه هو تلك الحظات النادرة التي تعرفها جيداً، اللحظات التي تشعر فيها بالصفاء المطلق في قلبك، بوهج ساطع من النور يقودك لتفعل ما ينبغي دون أن تفكر لوهله في تكلفته أو  الفائدة التي ترجوها من خلفه. تلك اللحظة الباهرة التي أشبه ما تكون بالوحي، بالهبه التي تختارك لتجعل منك إنساناً حقيقياً، تنفض الكثير من الغبار و العفن الذي يعشش داخل نفسك مع تراكم الأيام، كم ستكون سعيداً إن اختارتك، و ستكون اسعد الناس إن كررت زيارة قلبك.
هذه قصة حقيقية عن فعل خير حقيقي  كتبها قارئ لمجلة (ريدرز دايجست) الأمريكية و أوردها د. أحمد خالد توفيق في كتابه (شاي بالنعناع)، و لأنها طويلة بعض الشيء فسأحاول أختصارها..
كان صاحب القصة طفلا في السابعة، يهوى الوقوف أمام واجهة محل مستر جونز للحلويات، ذلك العالم الساحر حيث قطع الحلوى و الكعك و التفاح المكسو بالسكر و تماثيل الشكولاته الزاهية، كان الفتى فقيراً يكتفي بالفرجة، حتى جاء يوم جمع فيه ما يكفي و قرر دخول المحل، طلب في ثقة خمس قطع من الكعك و كيسين من حلوى غزل البنات الساخنه و عددا لا بأس به من تماثيل الشكولاته الفاخرة، سأله مستر جونز العجوز من خلف عويناته (هل لديك ما يكفي من النقود؟) فأجابه بثقة (نعم لدي ما يكفي). ناوله كيس الأحلام و أخبره بالثمن، وضع الصبي يده في جيبه و أخرج قبضة مليئة بالكرات الزجاجية الملونة (البراجون) و ناولها للمستر جونز في ثقة و هو يقول (هل هي كافية؟). صمت البائع قليلاً و هو يتأمل الكرات الملونة ثم رد بصوت مبحوح ( بل هي زائدة و يتبقى لك بعض النقود) و مد يده و ناول الصبي قطعاً من العملة المعدنية.
 انتقل الفتى السعيد إلى نيويورك، كبر  و تزوج فتاة أحلامة و لأنه يحب أسماك الزينة فقد جمع ما تبقى له من مال و فتح محلاً لبيعها، في الأسبوع الأول و المحل لايزال خاوياً مثقلا بالديون دخلت طفلة في الثامنة تصطحب أخاها الصغير الذي لم يبلغ الخامسة من العمر و قالت في ثقة (أريد أن أشتري بعض الأسماك لأخي) رحب بها الرجل و قام بجمع ما أشارت له من أسماك، اختارت أسماكاً ملونة غالية الثمن و أخرى كبيرة زاهية الألوان، كانت تلك الأسماك تساوي ثروة، و عندما سألها البائع إن كانت تملك الثمن لم تبد إهتماما و هزت رأسها إيجاباً. ناولها الدلو الذي يحوي الأسماك و أخبرها بالثمن، مدت يديها في جيبها و أخرجت قبضة ممتلئة بكمية وافرة من حلوى النعناع و نثرتها على الطاولة و تسآءلت في براءة (هل هذا كاف؟). وقف البائع مبهور الأنفاس و هو يحدق في الحلوى، تذكر فجأة موقف المستر جونز قبل خمسة و عشرين عاماً و هو يأخذ منه الكرات الزجاجية الملونة، لم يفكر كثيراً تنهد بعمق و قال (بل لك نقود زائدة) و دس في يدها قطعة نقدية، انصرفت الطفلة سعيدة، في حين انهار هو على المقعد و هو يردد (أي دين ثقيل حملتني هو يا سيد جونز)!.