الخميس، 6 يونيو 2013

ما هو الموت؟


تحكي معلمة الروضة لبراعمها الصغار و صفاً مبسطا و محبباً للجنة و نعيمها، تعود الطفلة الصغيرة إلى منزلها و هي مبهورة الأنفاس بالوصف الذي سمعته لذلك المكان الرائع حيث كل شيء فيه جميل و متوفر بكثرة، تحكي لأختها التي تكبرها بأعوام عن الجنة، و تسألها في براءة: متى أذهب إلى الجنة؟. تجيبها أختها بلا مبالاه:( بعد الموت). تغضب الطفلة الصغيرة و تصاب بالهلع، تهرع إلى أمها محتجة، لا أريد أن أموت، أريد أن أذهب إلى الجنة دون أن أموت!.
كيف عرفت تلك الطفلة الصغيرة معنى الموت؟ و لماذا أصيبت بالفزع منه رغم أنها لا تعرفه؟ ربما سمعت عنه عبارات و أحاديث متناثرة لكن وعيها و إدراكها لا يصل إلى درجة الفهم التي تجعلها تتخذ موقفاً حاسماً كالذي اتخذته. ترى هل نختلف نحن في تصرفاتنا عن تصرفات تلك الطفلة الصغيرة؟
ألسنا رغم يقيننا بأن الموت هو مصيرنا المؤكد نمارس رفض الموت و إنكاره في كل لحظة؟ ألسنا نندهش و نعجب عندما يأتينا خبر موت فلان من الناس كأنه ليس من المعقول أن يموت أحد؟
تبدو علاقتنا مع الموت علاقة معقدة بعض الشيء، فرغم يقيننا الأكيد بحدوثه إلا أننا نبذل المستحيل لتجنبه، نجرب كل الوسائل لنحافظ على بقائنا متشبثين بالحياة لأطول وقت، بل نحاول التحايل على الموت بحثاً عن الخلود بشتى الطرق، نحب و نتزوج كي ننجب أبناء (يحملون إسمنا) بعد رحيلنا، نكتب و نرسم و نخترع و نبدع في شتى المجالات كي (يخلد) ذكرنا على مدى الأجيال. نتنافس و نتصارع و نخوض الحروب،كي نخط تاريخاً( يذكر أمجادنا) و إن كانت مضرجةً بدماء غيرنا.
نعرف أن الموت سنة الحياة و أنه وسيلة لإعمار الكون و تجديد شباب الأرض برحيل بشر و كائنات و ولادة أخرى لكننا نظل نشعر بذات الرهبة و الدهشة كلما واجهنا الموت وجها لوجه، لماذا؟ لأنه يهز كبرياءنا من الداخل يقتحم حرزنا الأمين الذي لا يدخله أحد و لا يعرفه سواك، غرفتك الداخلية شديدة الخصوصية حيث تحتفظ بذكرياتك و أحلامك و أفكارك و أسرارك الصغيرة و الكبيرة، وحده الموت من يجرؤ على اقتحامها، على جعلها و جعلك مشاعاً بين الناس بلا خصوصية أو حجاب. لذلك نبادر إلى الهروب و إنكار حدوثه، إلى تحاشيه و التشبث بالحياة.
و لكننا في لحظات معينه من الخصام مع الحياة نعود لنتطلع إلى الموت في فضول،في رغبة خفية لعبور الجسر المغلف بالضباب، في اللحاق بمن ذهب ممن نحب. تلك الرغبة في الموت و التي تتجلى على استحياء حيناً و بقوة حيناً آخر تبدو أشبه بالغريزة العميقة في الإنسان، غريزة تتلاعب بعواطفة و أعصابه و أفكاره، تكون دافعاً للإبداع حيناً و مركزاً للصراعات و العواصف النفسية حيناً آخر ، علماء الأحياء يعرفون جيداً أن الخلية تمر بمرحلة تقرر فيها التوقف عن العمل و الانقسام و تبدأ في تدمير نفسها ذاتياً و يسمون هذه المرحلة بموت الخلية المبرمج. أليس من المنطقي أن يحتفظ الإنسان المكون من ملايين الخلايا بذات الدافع البدائي؟ ثم ألم تتعامل الشرائع السماوية مع الموت كما تتعامل مع أي غريزة فطرية أخرى؟ فهي من ناحية تحرم و تحذر من الانتحار و من ناحية أخرى ترغب و تحث على الجهاد و الاستشهاد في سبيل الله. تماماً كما تضبط غريزة الجنس عند الانسان بتحريم الزنا و الحث على الزواج!.


وزارة الحب


كان موظفاً مجتهداً، يعمل محرراً في "وزارة الحقيقة". وزارة الحقيقة هي المسؤولة عن سلامة أفكار الناس و معتقداتهم و عن حمايتها من التلوث و التأثير الخارجي، يقوم بطلنا بمهمة جليلة، و هي تعديل و تغيير المواد المنشورة قديماً في الصحف لتناسب الرؤية الجديدة للحزب، فمثلاً إذا قال الحزب بأن الدولة تتحالف مع دولة استاسيا ضد دولة أوراسيا فلا بد أن تتغير كل الصحف و الأفلام و الكتب التي كانت تقول بأن الدولة سبق أن حاربت استاسيا أو تحالفت مع أوراسيا. كذلك كان من وظائفه المهمة أن يمحو ذكر أي شخص تقرر الدولة التخلص منه، فلا يكفي إعدامه بل ينبغي محو ذكره تماماً من كل المنشورات و الوثائق القديمة فأعداء الحزب لا يستحقون حتى الذكرى.
كان من ضمن مشاريع وزارة الحقيقة كذلك العمل على إصدار معجم لغوي جديد يحذف الكلمات النابية من طراز (ثورة، تمرد، استقلال، حرية)، حتى لا تفسد أفكار الناس و تنحرف توجهاتهم
كان يعلم أن الأخ الأكبر يراقبه، كان يشاهد صورته الضخمة المهيبة في الشاشات العملاقة، و يشعر بحرارة النظرة الفاحصة المحدقة خلف الشاشة، الأخ الأكبر يعرف كل شيء. يراقب الناس عبر الشاشات و الكاميرات الخفية و الجواسيس المخلصين. لكنه لم يكن يحب الأخ الأكبر، و لم يحب طريقة الحياة الخانقة التي يمنع فيها كل شيء حتى الحب، الحب الذي قاده للتمرد عندما التقى جوليا، زميلته في الوزارة و التي بادلته الحب سراً و قررا التمادي رغم أوامر الحزب، و لأنه يحبها قرر أن يكون ثورياً و التقى بأحد قادة تنظيم الثوار الذي وعده بأن يضمه للتنظيم و أعطاه كتاب التعليمات الممنوع، لكن الأمور تبدلت سريعاً فسرعان ماداهمت "شرطة الأفكار" غرفته لتقبض عليه بالجرم المشهود مع جوليا، و ليكتشف أن قائد الثوار المزعوم هو رئيس شرطة الأفكار، بل إن صاحب المنزل الذي منحه الغرفة عضو في شرطة الأفكار كذلك. أي أنه كان مكشوفاً للأخ الأكبر منذ اليوم الأول!.
يتم تحويله لوزارة تسمى "وزارة الحب" كي تعيد إصلاحة و تجعل حبه خالصاً للأخ الأكبر فقط. يتولى رئيس شرطة الأفكار الذي اصطادة مهمة تعذيبة شخصياً، يخبره بأن عليه أن يتعلم، يتفهم، و يؤمن بحب الأخ الأكبر وحده، يتعرض للصدمات الكهربائية و شتى أنواع التعذيب يعترف بجرائم لم يرتكبها قط، لكنه ظل محافظاً على حبه لجوليا و كراهية الأخ الأكبر، هنا يبعثونه للغرفة ١٠١ حيث آخر وسائل الإصلاح، يستخرجون أعمق مخاوفه ويجسدونها، كان يخاف الفئران بشده لذلك وضعوا رأسه في قفص ممتلئ بالفئران الجائعة انهار أخيراً و صرخ انقذوني و ضعوا جوليا مكاني. لقد رضخ و تم إصلاحه، أصبح يحب الأخ الأكبر و يؤمن بأفكاره و يكره جوليا. مرة أخرى تنجح وزارة الحب في إصلاح مواطن ضال و تنتزعه من هوة الانحراف.
ذلك عزيزي القارئ ملخص مُخل لرواية "١٩٨٤" للكاتب العبقري جورج أورويل و التي كتبها قبل ما يزيد على ستين عام، أعد تأملها و قم باستبدال الأسماء و المصطلحات بعشرات البدائل للأحداث التي من حولك و سيدهشك كم ستبدو مناسبة و مطابقة بشكل مذهل!


العبارات باللون الأحمر لم يتم نشرها في الجريدة


هذه البوابة صنعت لأجلك فقط!


هناك قصة رمزية شهيرة للكاتب فرانز كافكا تتحدث عن رجل قروي قرر أن يسافر ليقابل القانون، و عندما وصل و جد بوابة عظيمة يقف أمامها حارس ضخم بشع الملامح، سأله القروي أن يسمح له بالدخول، فأجابه الحارس بأن الدخول ممنوع الآن. عاد القروي ليسأله إن كان سيسمح له بالدخول في ما بعد؟. أجابه بأن ذلك وارد و لكن عليه الانتظار. جلس القروي أمام البوابة ينتظر دوره لأيام، و تطاولت الأيام لسنوات و هو يقف أمام الحارس مستعطفاً، قدم له كل زاده الذي أتى به من القرية كرشوة ليسمح له بالمرور، لم يكن الحارس يرفض أي شيء، لكنه يكرر في كل مره قوله (أنا أقبلها فقط مراعاة لمشاعرك كي لا تشعر أنك لم تبذل الجهد الكافي لمحاولة الدخول!). كان القروي يستنكر الأمر في البداية بصوت عال لكن هيبة الحارس جعلت صوته ينخفض مع الأيام حتى تحول لهمهات خافته، ضعف جسمه و خبا ضوء عينيه و هو ينتظر، و عندما حانت ساعة احتضاره و هو لازال ينتظر تجرأ ليسأل الحارس سؤالاً أخيراً بصوته المرتعش، قال له (كل الناس تناضل لكي تصل إلى (القانون)، فكيف يتفق أنه خلال كل هذه السنوات الطويلة، لم يتقدم أحد سواي ليتوسل الدخول؟).
سخر الحارس من سؤاله و حرص أن يصرخ في أذنه كي يسمع الإجابه بشكل واضح و هو يحتضر (لا أحد يستطيع الدخول من هذه البوابة، هذه البوابة صنعت لأجلك فقط، وسوف أغلقها الآن!).
الرجل المحتضر في القصة هو رمز للضعفاء و البسطاء في أي مجتمع حيث عليهم وحدهم دون غيرهم أن يواجهوا تلك البوابة، البوابة التي تصدهم عن الولوج لعالم المساواة و الحقوق، و بقدر تحضر المجتمعات و عدالتها تتضاءل تلك البوابة و تختفي، و بقدر ما تتفشى الديكتاتورية و الفساد بقدر ما تتكاثر تلك البوابات و تتعاظم، لكنها تأتي في شكل أكثر عصرية و خداعاً، هي لا تخبرهم مباشرة بأنهم لن يمروا أبداً ،فقط تضع لهم تلك الحواجز المستحيلة و تطلب منهم الانتظار،الانتظار إلى الأبد، في حين يعبر المتنفذون من الجهة الأخرى لينالوا كل شيء بلا حساب، بوابة هلامية غير واضحة المعالم تتخذ شكل الأنظمة و اللوائح المعقدة حيناً، و شكل الروتين الخانق و القوانين المعطلة حينا آخر، دوامات لا نهاية لها تجعل المرء يدور حول نفسه في سباق عبثي للحصول على العدالة التي ينتهي عمره دون أن ينالها و يموت و هو يعتقد أنه هو المقصر و أن دوره لم يحن بعد لينال ما يريد و أنه لو بذل جهداً أكبر لربما تحصل على بغيته.
في حوار تلفزوني مع كاتب عربي ألف رواية تنبأت بالثورة التي حدثت في بلده قال إنه كتبها بعد حادثة شهيرة قام فيها إبن عضو في الحزب الوطني الحاكم يعبث بدراجته البحرية السريعة بدهس شاب فقير قاده حظه التعس للتواجد أمامه، و كما هو متوقع و رغم الضغط الإعلامي و الغضب الشعبي تمت تغطية القضية و تبرئة الشاب العابث من دم الشاب الفقير. يقول المؤلف أحسست وقتها أن شيئاً كبيراً قد انهار و أننا على وشك شيء كبير قادم.
كان الذي انهار هو تلك البوابة العظيمة، ففي لحظة ما يمل الناس الانتظار، تتلاشى هيبة الحارس و البوابة و القانون ذاته، فجأة يقررون تحطيمها و التنكيل بالحارس و اقتحام ساحة العدالة التي حرموا منها لسنوات كي ينالوها بأنفسهم.