بعيداً عن أحداث
السياسة الساخنة هذا الأسبوع، و قريباً
من أجواء بطولة أوروبا المثيرة سنحكي قصة
أوروبية لا تقل إثارة عن مباريات الكأس
و إن خلت من كرة القدم لكنها لم تخل من
الحكام و المدرجات و الكثير من الأسى!
في بداية الستينات
ميلادية،و في العام ١٩٦١ تحديداً كان
طبيب الأطفال الألماني ويدكند لينز يمارس
عمله المعتاد في عيادته عندما زارته إحدى
الأمهات مع طفلها حديث الولادة، كان الطفل
يعاني من حالة نادرة جداً من تشوهات الأجنه
و هي ضمور الأطراف، أي أنه ولد بلا ساقين
ولا ساعدين. أبدى
الدكتور أسفه لتلك الحالة النادرة للطفل
الوليد و أسدى للأم عدداً من النصائح و
وضع لها جدولاً لمتابعة الحالة و تطورها.
و انصرفت الأم و هو يبدي دهشته من وقوع
تلك الحالة النادرة جداً بين يديه لكنه
لم يكن يعلم أنه و خلال عشرة أيام فقط
سيقابل في عيادته حالة أخرى لطفل حديث
الولادة يعاني من ذات المشكلة، هنا توقف
الدكتور لينز مذهولاً، فتكرار مشاهدة
تلك الحالة النادرة جداً خلال عشرة أيام
لا يمكن أن يكون مصادفة إلا لو كانت
المصادفة تسمح بربح اليانصيب الوطني
مرتين لذات الشخص في عشرة أيام!.
هنا تجلت الملكة
العلمية للطبيب الفذ و أخضع الحالتين
لدراسة بحثية مسترجعاً كل الظروف التي
مرت بها الحالتان قبل الولادة بحثاً عن
عامل مشترك بينهما ، و بعد بحث دقيق لم
يجد الطبيب عاملاً مشتركاً من العوامل
المعروفة بخطورتها على الأجنة، لكنه لاحظ
أن كلا السيدتين اشتركتا في تعاطي دواء
مسكن شائع الإنتشار و بالغ الأمان كما
كان يروج له وقتها يدعى (ثاليدومايد)
و نشر الدكتور لينز بحثه الذي لم يكن
يتوقع أنه سيغير حياته إلى الأبد و يربطها
بذلك الدواء ما بقي له من العمر!
ظهر ثاليدومايد
في ألمانيا في العام ١٩٥٧ و كان الدواء
في ذلك الوقت يعد اختراقا علمياً في
أوروبا كلها فالدواء كما تقول أبحاثه
مفيد في علاج الصداع و الأرق و الغثيان
عند النساء الحوامل و أهم من ذلك أن الدواء
لا جرعة سامة له و أن أقصى مضاعفاته هي
النوم الطويل فقط.
لم تمض أشهر حتى كان الدواء يوزع في
سائر أنحاء أوروبا، كما تم بيعه في أستراليا
وأفريقيا و آسيا و الشرق الأوسط.
حتى نشر الدكتور لينز بحثه المثير
للتوالى بعده الكوارث ففي كل تلك البدان
تم تسجيل آلاف الحالات من تشوهات فقد
الأطراف و بدأ الجميع يربطها بالسبب
الخفي، تم سحب الدواء سريعاً في أوروبا
و عرفت القارة العجوز جيلاً كاملاً من
فاقدي الأطراف الذين عرفوا فيما بعد بجيل
الثاليدومايد، و رفع ذوو الضحايا عشرات
القضايا في المحاكم ضد الشركة المصنعة
كان أشهرها التي جرت في ألمانيا نفسها و
استمرت حتى عام ١٩٧١ (نعم
لم تقفل القضية إلا بعد عشر سنوات من
اكتشاف الكارثة) و
قد قاوم محاموا الشركة بشراسة و افترسوا
كل وثيقة أو شهادة قدمت في المحكمة بلا
رحمة و أغلقت القضية باتفاق خارج المحكمة
يقضي بدفع الشركة مبلغ ١٠٠ مليون مارك
ألماني لضحايا العقار مقابل عدم إدانتها،
و قد كان لها ذلك و أفلتت الشركة من أي
عقوبة قانونية.
لكن ماذا عن
الولايات المتحدة؟ مالذي فعله العقار في
أرض التجارة و الشركات و الدعاية التي لا
ترحم؟ لقد عرض الدواء على منظمة الغذاء
و الدواء الأمريكية و أسند ملفه إلى موظفة
جديدة تدعى فرانسيس كلسي، كان إقرار ترخيص
الدواء أمراً شبه محسوم بعد توزيعه في
أوروبا بشكل واسع و بدون وصفه طبيه لكن
فرانسيس كانت مخلصة لعملها الجديد و راجعت
الملف بشكل دقيق و خلصت إلى أن أبحاث
السلامة و الأمان لم تستوف بشكل كامل و
رفضت ترخيص الدواء، استشاطت الشركة غضباً
و مارست ضغوطاً عدة على الموظفة الجديدة
لكنها لم ترضخ و أصرت على موقفها.
فماذا كانت النتيجة.
لقد حمت كلسي بإخلاصها و عنادها الأمه
الأمركية من وباء الثاليدوميد و لم تسجل
في الولايات المتحدة كلها سوى ٢٠ حالة
فقط تناولت أمهاتهم الدواء في تجارب طبية
أو خارج البلاد و تقديراً لإخلاصها قام
الرئيس الأمركي جون كيندي بتكريمها
لقد شكلت قضية
الثاليدومايد صدمة للثورة العلمية في
أوروبا وكان مما ورد في حكم المحكمة
الألمانية " إن
كامل سياسة البحث العلمي و التجارب على
الأدوية تحتاج لمراجعة و تنظيم حتى لا
تتكرر تلك الكارثة"
لكن هل انتهت قصة
الثاليدومايد هنا؟ للأسف استمرت القصة
بفصول أكثر إثارة..لكنها
أكبر من أن يتسع لها المقام هنا..و
ربما نعود لها في مقال لاحق إن رغبتم في
ذلك.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق