لو كان الأمر بيدي
لجعلت مساحة هذا المقال مخصصة لإعلان
مختصر من ثمان كلمات فقط "
اغتنم الفرصة و أدرك جائزة العمر التي
ستغير حياتك". و
لو كان الأمر بيدي لجعلتها تتكرر في كل
صفحة من الجريدة و كل الصحف الأخرى و كل
قناة تلفزونية و كل لوحة إعلانية على
الطريق.
إنها بالفعل فرصة
العمر التي نضيعها بغباء و جهل وقساوة
قلب في كل عام، نستبشر برمضان في أوله،
نتبادل التهاني و الدعاء بقبول الصيام و
القيام، نبدأ لياليه الأولى بحماس في
قراءة القرآن و صلاة التراويح، ثم و بعد
أسبوع على الأكثر نكون قد انغمسنا في عالم
آخر لا يمت لرمضان الروحاني بصلة، نندمج
باستغراق في تفاصيل المسلسلات الساخنة
التي نتابعها، نفق الساعات تلو الساعات
في تتبع حلقاتها و أي قناة تبكر بعرضها
قبل الأخريات و أيها تعرضها كاملة بدون
إعلانات، و إن بقي لديك بعض الوقت في ليل
أو نهار فلابأس بمتابعة أخبار مباريات
الدوري التي انطلقت و كيف خسر الهلال وفاز
الشباب و كيف ستكون عودة الوحدة؟
و إن سلمت من صداع
الكرة و المسلسلات فلا مفر من جحيم الأسواق
و حمى مشتريات العيد فالصغار ينقصهم
الثياب و الجوارب و الأحذية و أنت لابد
أن تشتري شماغاً جديداً يحمل البصمة رقم
مليون و قلماً و محفظة و قميصاً و بنطالاً
و حذاء رياضياً جديداً و كل ذلك في العشر
الأواخر من رمضان.
نحفظ تقريباً كل
الأحاديث التي تتناول فضل رمضان، نتبادلها
في رسائل الجوال، نلقن أولادنا سورة القدر
منذ الصغر و نقرؤها في أكثر صلواتنا،
لكننا نتعامل مع ليلة القدر ذاتها كأنها
ليلة خيالية لا تخصنا و لا علاقة لها
بالواقع. نلغي
وجودها تماماً و أقصى ما يربطنا بها ركعات
باردة نؤديها في المسجد خلف الإمام و
تأمينات فاترة على دعائه و بالنا مشغول
تماماً في ما سنفعل عند خروجنا من المسجد.
هل سيكون السوق مفتوحاً أم أغلق
أبوابه؟ هل انتهى الخياط من تفصيل الثياب
أم لا؟ هل سأتمكن من يبديل القميص الذي
اشتريته البارحة؟ هل سأجد المطعم الصيني
مغلقاً؟
نخرج من رمضان
مخدوعين و قد فوتنا أعظم مافيه من فرص و
أروع مافيه من لحظات و هي لحظة المناجاة
الصادقة و التذلل بين يدي الله، و هي لحظة
لا يعرف لذتها إلا من ذاقها.
يقول مصطفى محمود في وصف أسعد لحظة
في حياته"هي
لحظة ذات مساء اختلط فيها الفرح بالدمع
بالشكر بالبهجة بالحبور حين سجدت لله
فشعرت أن كل شيء في بدني يسجد..قلبي
يسجد..عظامي
تسجد..أحشائي
تسجد..عقلي
يسجد..ضميري
يسجد..روحي تسجد.
حينما سكت داخلي القلق و كف الاحتجاج
و رأيت الحكمة في العذاب فارتضيته و رأيت
كل فعل الله خير، وكل تصريفه عدل، وكل
قضائه رحمة و كل بلائه حب..لحظتها
أحسست و أنا أسجد أنني أعود لوطني الحقيقي
الذي جئت منه و أدركت هويتي و انتسابي و
عرفت من أنا و أنه لا أنا بل هو و لا
غيره..كانت لحظة
و لكن بطول الأبد ..نعم
تأبدت في الشعور و الوجدان و ألقت بظلها
على ما بقي من العمر.”
في ثلث الليل
الآخر من كل ليلة ينزل الله إلى السماء
الدنيا فيهرع إليه العباد و الزهاد و
الصالحون يهجرون فرشهم و أحضان أزواجهم
ليخلوا به و يجلسوا على مائدته، لكن الله
في رمضان يدعوك أنت، أجل يدعوني و يدعوك.
يقترب منك يفتح الباب و يلغي الحجاب
و يصفد الشياطين و يدعوك لمائدته، يدعوك
لتذوق طعم الرحمة الحقيقي و تستمتع بحلاوة
المناجاة،لتتأمل جمال المغفرة و لتذوب
في صفاء الأنس و تجرب نشوة التحليق خارج
الجسد و خارج الدنيا.
صدقني مهما كانت
همومك و مهما بلغت أمنياتك فلا شيء يطفئ
الهم و يحقق الأمنيات مثل دعوة حارة في
سجدة خاشعة و لا نشوة تهز كيانك و تغسل
وجدانك مثل دمعة صادقة سالت على خدك في
غمرة المناجاة.
يقول سبحانه
"واسجد و اقترب"
تخيل تلك السجدة التي تأخذك بعيداً..تأخذك
عالياً..تحلق بك
في سموات الله تقربك من رحمته و ملكوته و
جلاله، تشم فيها رائحة الجنة و تلامس
أجنحة الملائكة ثم تهبط و في قلبك حدائق
الطمأنية و النعيم.
بالله أي خسارة
تلك عندما يخرج الناس من رمضان بالأنس
بالله و سعة الرزق و راحة البال و صلاح
الحال و تخرج أنت خالياً إلا من ثوب العيد؟
لازال في الوقت
متسع يا صديقي..فأقبل
على خير موائد الكون..و
أطلب ما تشتهي!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق