أومرتا
هو عنوان آخر روايات الكاتب (ماريو بوزو) و التي لم يقدر له أن يعيش ليشهد لحظة
صدورها، و تدور أحداثها كما جميع رواياته في عوالم المافيا و الجريمة المنظمة و
الصراعات العنيفة بين أفراد تلك العصابات. قد لا يبدو إسم ماريو بوزو مألوفاً
لديك، لكنه سكون كذلك بلا شك إذا ذكر اسم (العراب) الفليم الذي قدمه المخرج
العبقري كوبولا في عام ١٩٧٢و حصد جوائز أوسكار عديدة في ذلك العام. كان الفيلم مقتبساً عن
رواية بذات العنوان لماريو بوزو،و صور ببراعة شديدة و للمرة الأولى العوالم الخفية
لحياة عصابات المافيا، يقول ماريو بوزو انه استقى حبكته من قصص حقيقية متعددة مزجها في نسيج روايته الشهيرة،
في الرواية/الفيلم تشاهد الدون كورليوني زعيم العصابة و هو يمارس دوره كرب أسرة و
عميد عائلة تقليدي. يحتفل بزفاف أحدى بنات العائله و في ذات الوقت، يعطي أوامره الصارمة بتنفيذ
العمليات الإجرامية. في عوالم المافيا دائما هناك عقيدتان مقدستان لا يمكن
تجاهلهما، أولهما مبدأ الولاء المطلق للعائلة و الزعيم، و إسباغ المنح على من يثبت
ولاؤه، الثانية هي أنه من غير المقبول إطلاقاً رفض طلبات الزعيم، و أي رفض له
عقوبة واحدة هي الموت.
في كل
قصص المافيا هناك تلك الأجواء الخاصة التي تشعرك أنك في عالم آخر لا ينتمي للعالم
الذي تعرف لكنه حقيقي لأبعد حد، دائما ما تكون مشكلة الأسرة هي الانتقام من أسرة
أخرى منافسة أو محاولة تجنب بطش عصابة أخرى تسعى للانتقام هي الأخرى.
لغة
السلاح و القتل و السيارات الملغمة هي الأكثر فصاحة، و الطريف في الأمر أن الشرطة
لا تظهر أبداً إلا في صورة ضابط فاسد يتلقى الرشى، أو ضابط ساذج معدوم الحيلة لا
يعرف ما يفعل و يثير السخرية أكثر مما يثير التعاطف.
في عرف
المافيا كذلك- وهذه حقيقة- عبارة شهيرة أصبحت أحدى سمات ذلك المجتمع المعقد هي (أُومِرتا-Omerta) و هي مصطلح خاص بالمافيا يعني (اتفاقية
الصمت). فمهما بلغ دوي الحدث في المدينة و مهما سالت الدماء على الطرقات لا يسمح
لأحد شاهد أو سمع عن الجريمة أن يتحدث للشرطة أو لأي طرف خارجي.
سيأتي
المحققون، يستجوبون الشهود، يعتقلون المشتبه بهم، يستنطقون الأدلة. كل شيء واضح و
صريح و يشير إلى الفاعل الذي هو أحد أفراد المافيا. لكن لا أحد يتحدث، لا أحد يجرؤ
على الشهادة، يضرب المحقق رأسه بالجدار، القضية تتسرب من بين أصابعه كالماء
الجاري، يطلق المتهمين و هو يعلم أنهم في طريقهم لارتكاب جريمة أخرى لكن ما العمل؟
إنها الـ(أومرتا).
شخصياً
أعتقد أننا أصبنا بلعنة الـ(أومرتا)منذ زمن بعيد. نحن وبلا فخر نطبق نظرية الصمت
أكثر بكثير من رجال المافيا أنفسهم. نطبقها مرات عدة في اليوم و الليلة. و يمكنك
التأكد من كلامي إذا استرجعت أحداث أسبوعك الماضي فقط. تذكر آخر مرة جلست فيها مع
أصدقائك، عن كم مشكلة من مشاكل العمل تحدثتم؟ عن تجاوزات مديرك المباشر؟ عن أخطاء
المدير الإقليمي؟ عن أخطاء سياسة الشركة أو الوزارة بالكامل؟ عن يقينك بفساد هذا
المسؤول أو ذاك؟ لكن ما الذي حدث بعد ذلك؟ تغسل من ذهنك كل ما تحدثت به قبل قليل و
أنت تغسل يديك بعد تناول طعام العشاء... أومرتا!.
تنتقد
عادات أسرتك أو قبيلتك، تصفها بالبالية و المخالفة للشرع، تبدي تذمراً أمام زوجتك
و بعض أصدقائك، لكنك تكون أول المبادرين بالالتزام بها و ربما الدفاع عنها أمام
الآخرين.. أومرتا!
تكون
فصيحاً جداً عندما تتحدث عن المنافقين و المتاجرين باسم الدين لكنك تصاب بالخرس إذا طلب منك تسمية اسم أحدهم
صراحة و ربما بادرت ذلك الأحد بالعناق إذا قابلته في مكان عام .....أومرتا.
نحن في
الحقيقة نعيش ضمن (أومرتا) جماعية كبيرة، تربينا عليها و نواصل بحماس تربية أبائنا
على المحافظة عليها، نلقنهم بشكل عملي عبارات (مو شغلك) و (مالك صلاح) و (خليك
ساكت أحسن) و (من خاف سلم) في كل موقف مدعيين الحرص على سلامتهم، و لا نعرف أننا
بذلك ندمر أخلاقهم و إحساسهم بالمسؤلية.
الـ(أومرتا)
التي نعيشها هي التي جعلتنا سلبيين و انهزاميين، لا نجرو حتى على الاعتراض على سوء
خدمات البلدية، نتحمل قذارة الحي و حفر الشوارع في صمت و لا نتحدث، فضلاً عن أن
نغير الوضع للأفضل.
أليس من الأجدى قبل البحث عن علاج الفساد أن
نبحث عن علاج يخلصنا من الـ(أومرتا)؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق