يقبع على باب بيتي صندوق معدني تعيس، قد اعوج ظهره، وتدلت أحشاؤه منذ سنوات، أطالعه في كل يوم أكثر من مرة، يكسوه الغبار حيناً, وتغسله الأمطار حيناً, ويستخدمه المارة لوضع بقايا الخبز الملقاة أرضاً فوقه, إكراماً للنعمة حتى لا تدهس.
ذلك الصندوق الحزين لم يسكن جدار منزلي بإرادته، و لا برغبتي، استيقظ ذات نهار ليجد نفسه مصلوباً على جدار بيتي، ولأجده هناك يطالعني بذات الدهشة التي أطالعه بها، ولأنني مواطن صالح فلم أعترض على وجوده، وإن كنت غير مرحبٍ به ولا أعرف كيف سأستخدمه، وربما لذلك السبب لم أبالِ كثيراً بعد أيام عندما وجدته قد تعرض لهجمة من بلطجي مجهول في حارتنا تركته بلا حول ولا قوة، و ظل الحال بيننا كذلك لسنوات، نظرات باردة متبادلة كل صباح، وتجاهل أكثر برودة في المساء، حتى جاء يوم زرت فيه صديقي الذي يسكن حياً راقياً، فوجدت صندوق (واصل) لديه يتألق لمعاناً ويفيض بهجةً، فسألته عن حال صندوقه السعيد فأخبرني أنه قد فعّل الخدمة، وأن الرسائل تصله إلى باب داره كل يوم، ولولا أنني استوقفته لهمّ بأن ينظم قصيدة شعر في مدح صندوقه المبتهج. وبالفعل لم يتأخر الاتصال، وجاء الموظف الهمام ليصلح الصندوق، ويسلمني المفتاح وبيانات العنوان، شكرته بحرارة وأنا لازلت غير مصدق، ابتسم بثقة، وردد نحن في الخدمة في أي وقت، وكانت تلك هي المرة الأخيرة التي أرى فيها وجهه أو وجه أيٍ من موظفي البريد، فقد تعرض الصندوق لهجمة جديدة بعدها بشهر واحد, وعندما قدمت طلباً لإصلاحه لم يجبني أحد حتى هذا اليوم, ظللت لفترة طويلة مستاءً من هذا الصندوق الكسيح, ومن مستوى الخدمة الهزيل الذي “يفشل” في صناعة صندوق متين قابل للحياة كصندوق صحيفتي المجاور له، وظللت مستاءً من خدمة ذات موقع براق على الإنترنت وفي المطويات لكنها بلا فعالية في الشارع، خدمة لا تصمد إلا في الأحياء الراقية وبين علية القوم وتنهار بمجرد احتكاكها بمن دونهم.
لكنني وفي لحظة تأمل جامحة اكتشفت كم أنا متجن على هذا الصندوق المسكين، وكم أحمله من الأوزار والأحمال ظلماً، بل إنه في الحقيقة نعمة كبرى أرسلها الله لي دون أن أفقه فضلها، فما فعله الصندوق الخجول المؤدب، هو أنه ضحى بنفسه ليعطيني مثالاً حياً على وضع البلد بشكل عام، كان في كل يوم يمنحني إشارة خافته وبليغة في نفس الوقت، لكنني لم ألتقطها للأسف إلا مؤخراً، فالصندوق الشهم يمثل في يوم ماطر قرارات سعودة سوق الخضار الحازمة التي غسلتها أمطار النسيان وفقدت شهامة المسؤول. والصندوق الكسير يمثل قرارات تأنيث المحلات النسائية التي دأبت قبضات متحمسة على تكسيرها في كل مرة. والصندوق الضعيف في الشارع هو مستوى مخرجات التعليم لدينا التي لم تصمد للأسف أمام امتحان البطالة،لكنه يتحول بقدرة قادر إلى منتهى القوة والإنتاجية إذا وجد (جداراً) فخماً يستند إليه!.. والصندوق الذي رُكب ذات يوم أمام بيتي دون علمي ودون رأيي هو مجلس الشورى الذي لا يمثلني حتى الآن، ولا أعرف حتى متى، والصندوق الجريح الذي تنصل منه مرجعه هو حال كل من يلهث خلف سريرٍ أو موعدٍ في مستشفى ولا يجد رداً.. و الصندوق الذي حظي بدعاية باذخة وميزانية ضخمة ثم انتهى محطماً بلا فائدة هو مشروع المستشفى والمدرسة والنفق والمتعثرة جميعاً لسبب لا يمكن معرفته على وجه الدقة، تماماً كما لا أعرف على وجه التحديد لماذا يتحطم صندوق واصل فورَ تركيبه بضربة واحدة، ولا يتأثر صندوق الجريدة الرابض إلى جواره منذ سنوات!!
عزيزي صندوق واصل…تقبل اعتذاري
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق