كانت لوحة إعلانية ضخمة على جانب الطريق السريع، بين مكة المكرمة وجدة حملت اسم الشركة بخط كوفي منسق جميل وزخارف إسلامية بارعة الجمال من حولها.
كانت شركة تأمين جديدة في سوق التأمين حديثة العهد ذلك الوقت، تزامن ظهورها مع فرض التأمين الإلزامي على السيارات في المملكة، والجدل الذي دار حينها حول مشروعية التأمين وموقف أهل العلم منه بين محلل ومحرم.
أصبحت شركة التأمين تلك حديث المجالس والمنتديات، فمالكها ينتمي لأسرة عريقة في العلوم الشرعية وظهوره المتتالي في وسائل الإعلام عزز الثقة في منهج الشركة والتزامها بالمعايير الشرعية في التأمين، خصوصاً في مجتمع يتحسس كثيراً تجاه الحلال والحرام في المعاملات المالية.
وسرعان ما حُسم جدل المشروعية والتحليل والتحريم ليصبح جدلاً حول أي الشركات مجاز شرعاً وأيها ليست كذلك، وبالطبع أصبح للشركة عملاء من مختلف الطبقات والمناطق بسرعة لا يحلم بها أي مدير تسويق في العالم.
عملاء يشترون سلعة حديثة عليهم لا يعرفون ما هي بالضبط، لكنهم مضطرون إليها.. يدفعون المال ليحصلوا على ورقة أنيقة مزخرفة تحمل شعار الشركة، ويفترض أن تضمن خدمة التأمين في حال الضرر بصورة مجازة شرعاً.
ربما لا يعرف العملاء كيف، لكنهم يثقون في الأشخاص الذين يديرون الشركة وهذا كافٍ في نظرهم.
لم تمض بضعة أشهر حتى اضطر عدد من مستخدمي التأمين لتقديم وثائق الشركة لإدارة المرور لتغطية تكاليف حوادث سياراتهم، عندها كانت المفاجأة، المرور لا يعترف بتلك الوثيقة.
وما هي إلا أيام حتى تكشفت باقي الفصول المثيرة، الشركة الموحية بالثقة تلاشت كأنها لم تكن. اختفت هي ومكاتبها وموظفوها، ولم يجد الناس من يدلهم على طريقة لاسترداد أموالهم أو مقاضاة الشركة وأخواتها ممن لم يوفين بعهودهن.
ومما زاد حيرتهم أنهم اكتشفوا أنهم يتخبطون في الظلام، فلا نظام واضحاً لحقوق الشركات وواجباتها، ولا جهة مرجعية واضحة للتقاضي، ولا توعية كافية بما ينبغي وما لا ينبغي.
فقط كان شرطي المرور يرد الوثيقة في ضيق ونفاد صبر ليقول لهم إن تلك الشركة غير معترف بها لدينا!.
ولأن الناس طيبون فلم يخطر على بالهم أسئلة من طراز كيف استطاعت هذه الشركات أن تفتح مكاتب وحسابات بنكية وتقبض الأموال وتمارس الدعاية لنشاطها في كل مكان وهي غير معترف بها؟ فقط تقبلت الأمر كقضاء وقدر واحتسبت ولجأت لشركة أخرى يعترف بها المرور، على الرغم من أن بعض المشايخ حرم تعاملاتها!.
ومرت الحادثة في هدوء كأن لم تكن.
الآن وبعد سنوات من تلك الحادثة.
ترتفع لوحة عملاقة في طريق سريع آخر، لكنها كتبت بخط عصري ملون بألوان زاهية هذه المرة.
تدعو الناس للتأمين الصحي لدى شركة تأمين جديدة، يحفزك الإعلان للتأمين، فلا شيء أغلى من صحتك، ولا هم أكبر من هم المرض، ولا أجمل من أن تجد شركة تأمين تعدك بالعلاج في أرقى المستشفيات في البلاد بمجرد شراء وثيقتها الموعودة، ولأن وسائل العصر قد تقدمت، فستجد الإعلانات تحاصرك حتى في جوالك وتعيد في كل مرة العزف على وتر علاج مضمون وراقٍ وبتكاليف ميسرة.
طبعاً سيتحمس البعض للحصول على الخدمة المغرية، وسيتساءل الأذكياء منهم عن مشروع مماثل بشرت به وزارة الصحة في عهد وزيرها السابق ونشرت إعلاناته في كل مكان قبل أن يختفي عن الأنظار تماماً مع الوزير الجديد، ولأنهم طيبون فلن يكترثوا كثيراً عندما لا يجدون إجابة من أحد، فضلاً عن أن يعرفوا إلى أين تسير قاطرة الخدمات الصحية في البلاد وفي أي اتجاه تمضي.
وسيبقى ذات السؤال معلقاً: ترى هل تغير شيء منذ ذلك الوقت؟ هل سيعرف الناس الذين يدفعون أموالهم لشركات التأمين الطبي ما النظام الذي يحميهم؟ وما الجهة المشرفة على هذا القطاع؟ وما جهة التقاضي في حالة الخلاف؟ أم أننا مازلنا شعباً طيباً.. يدفع ويوقع ويخليها على الله.. ويا رجّال لا تدقق؟!.
صحيفة الشرق المطبوعة العدد رقم (٦) بتاريخ (١٠-١٢-٢٠١١)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق