لنبدأ بقصة قصيرة
تصلح كمدخل لموضوعنا.
نشرت صحيفة سعودية قبل بضعة أشهر
تقريراً عن تكدس جثث الموتى في جازان و
لجوء مديرية الشؤون الصحية هناك لحفظ
الجثث في سيارات تبريد الخضار و الفواكه،بعد
نشر الخبر بأيام تم تغيير مدير الشؤون
الصحية هناك و تعيين مدير جديد.
حاولت الصحيفة الخروج بأي تصريح من
مسؤوليي الوزارة يربط بين تغيير مدير
الشؤون الصحية و بين تقريرها عن ثلاجات
الخضار التي استخدمت للموتى، و عندما نفت
وزارة الصحة تلك العلاقة و بررت التغيير
بأنه روتيني و مقرر سلفاً، تباكت الصحيفة
على الشفافية المفقودة و على غياب حس
المصارحة في المؤسسات الحكومية.
لكن الطريف في الأمر أن رئيس تحرير
ذات الصحيفة تمت إزاحته عن منصبه بعد
الحادثة بأسابيع لأسباب تتعلق بتقرير
آخر نشر عن ذات المنطقة أيضاً، و لم تجرؤ
الصحيفة التي تباكت على غياب شفافية
المؤسسات الحكومية قبل أيام على الإشارة
و لو إشارة عابرة إلى خبر الإقالة فضلاً
عن ذكر أسبابه أو حيثياته أو تداعياته،
و كأن القارئ الذي يدفع من دخله البسيط
ميزانية الصحيفة و يمنحها زهو الانتشار
ليس له أي قيمة في حسابات الشفافية
المفقودة.
تلك القصة ليست
خاصة بصحيفة دون عينها، و قد أوردتها فقط
للدلالة على حجم الخلل الذي تعاني منه
الصحافة المحلية لدينا فخبر إقالة أي
رئيس تحرير يعامل بحساسية غريبة، و تتواطأ
كل الصحف الحكومية على تجاهلة كأنه لم
يحدث قط، ولولا التسريبات و المنتديات
الإلكترونية و تويتر و فيس بوك لظل الخبر
أشبه بجريمة الشرف التي يتجاهلها الجميع
علانية و يتهامسون عنها سراً.
ذلك التجاهل و
الإعراض عن النشر يشير إذا أحسنا الظن
إلى نوع من الخجل تمارسه الصحافة نتيجة
الارتباك و عدم الفهم الذي تقع فيه عندما
تمتحن في نقاط حساسة تخص استقلاليتها و
مدى ارتفاع او نخفاض سقف حريتها.
و عندما تفشل في تقدير ارتفاع السقف
يقع الارتطام و الدوار و فقدان التوازن.
ثمة منطقة رمادية لازالت تحكم علاقة
الصحافة بالخطوط الحمراء و الخضراء، و
مهما كتبنا من معلقات و قصائد عن الحرية
التي بتنا نملكها مقارنة بالماضي فسنظل
نخدع أنفسنا مالم نجرؤ على ملامسة النقاط
الحساسة و التي تمس جوهر العمل الصحفي
الحقيقي كاستقلالية الصحف، و حريتها و
حقوق الصحفي المهنية و القانونية.
و إذا كنا نلتمس
العذر للصحافة المحلية في غياب استقلاليتها
و تماهيها مع الرأي الرسمي فإننا لا نجد
أي عذر أخلاقي يبرر غياب تلك الاستقلالية
أمام سطوة ريالات المعلنين، فقد تتفانى
صحيفة ما في تتبع أخبار المرافق الحكومية
الخدمية و تسلط عين النقد القاسية على
زلاتها و أخطائها و تطالب بأعلى صوتها
بمحاسبة المسؤلين عن تلك الزلات، لكن ذات
الصحيفة تتحول إلى حمل و ديع و كائن فلسفي
لا يسمع و لا يرى و لا يتكلم عن شكاوى يضج
بها الناس و تصخب بها المجالس عن تجاوزات
ارتكبتها إحدى الشركات العملاقة التي
تعلن في الصحيفة بمبلغ يتجاوز الست خانات،
و حرصاً على تلك الميزانية فلا مانع من
بعض التجاهل الذي يحافظ على الدخل حتى لو
أغضب القارئ قليلاً و حتى لو استهلك شيئاً
من رصيد المصداقية لديه.
لكن العجيب أنه
رغم كل تلك السلبيات التي ذكرناها، ورغم
توفر البديل الأكثر مهنية و مصداقية و
حرارة في الطرح فإن تلك الصحف لازالت
صامدة و لازالت تواصل الصدور، بل و هناك
صحف جديدة تطل برأسها على الساحة، فكيف
تجتمع تلك السلبيات و ذلك الرواج سوياً؟
في رأيي أن ذات
السلبيات التي ذكرنا هي مصدر الدعم و
الثبات الذي تتمتع به الصحف، فغياب
الاستقلالية و التماهي مع الرأي الرسمي
له مقابل يتمثل في الدعم الحكومي عبر
اشتراكات الدوائر الحكومية و إعلاناتها
و التي تمثل دخلاً لا يستهان به و الذي
ربما يكون السبب الوحيد الذي يمنح صحفاً
ضعيفة التوزيع إلى حد كبير كصحيفة الندوة
مثلاً القدرة على البقاء و الصدور حتى
اليوم.
السبب الثاني
لقدرة الصحافة المحلية التقليدية على
البقاء هو الدخل الإعلاني، ولا أعني هنا
الإعلان التجاري التقليدي فقط بل الإعلانات
ال(بين بين)،
و التي تتمثل في إعلانات التهاني و الترحيب
بقدوم ذلك المسؤل أو سلامة الآخر و كذلك
إعلانات التعزية و الشكر على التعزية و
كلها إعلانات ذات خصوصية سعودية إلى حد
كبير و قد أثمرت دخلاً بعشرات الملايين
لتلك الصحف. و
لكن وسط كل تلك الحسابات المعقدة أين
يكمن الاهتمام بالقارئ؟ هل لازال لرأي
القارئ أي اعتبار لدى صحفنا؟ أعد قراءة
عناوين الصحف اليوم..و
احتفظ بالإجابة لنفسك!
العبارات باللون الأحمر لم تنشر في الصحيفة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق