لا شك أنك مررت بذلك الشعور يوماً ما، أو ربما تمر به الآن. شعور أنك محتجز إلى ما لانهاية في دراستك الجامعية، وأن تخرجك يبدو بعيداً جداً وصعب المنال، خصوصاً وأن سنتك الدراسية لا تخلو من عواصف لا تبشر بخير. خصوصاً عندما تجد رفاقك في الدراسة الثانوية قد تخرجوا وتزوجوا وبدأوا حياتهم العملية لمجرد أنهم اختاروا تخصصاً مختلفاً وأنت عالق هنا، لا تدري إن كنت قد اخترت الاختيار الصحيح فعلاً أم تورطت ورطتك الأبدية؟. أنت في مرحلة تجاوزت فيها نشوة الالتحاق بالجامعة وبهجة كونك طالباً جامعياً لكنك في ذات الوقت بعيد عن شغف ترقب التخرج الذي ما زال غامضاً وغير واضح المعالم.
أنت تشعر بالملل، الكثير من الملل، ملل لا تبدده القراءة أو الصحبة أو متابعة مباريات فريقك المفضل في الدوري، ملل أقرب ما يكون لعارض غير صريح لحالة إكتئاب في طور التشكل، ملل لا تطفئه جولاتك اليائسة في شوارع المدينة الخالية قبيل الفجر، وكأنك تنتظر رسالة ما من شخص ما لتغير حياتك الخانقة الأشبه بمعطف الإسمنت. هنا تكتشف اختراعاً حديثاً سمعت عنه منذ زمن، تكتشف أنه حل ضيفاً في مدينتك غير المتعاطفة مع مللك، ضيف اسمه الأنترنت، اختراع جديد مبهر كأنه جاء خصيصاً لك أنت..كانت الأنترنت أشبه بطبق فضائي طائر هبط في ساحة داركم الخلفية، وكان الدخول في عالمها أشبه بدعوة لزيارة ذلك الطبق الفضائي من الداخل، أجل..ذات الرهبة وذات الوجل وذات الإثارة التي لم يشعر بها سوى رائد الفضاء وهو يخطو خطوته الأولى على سطح القمر. أما البريد الإلكتروني فكان وقتها أشبه بالتخاطب الذهني الذي تقرأ عنه في كتب الخوارق، أنت تفكر في فلان ..تنقر نقرات قليلة، تجد أن فلاناً قد بلغته أفكارك بل وشرع يرد عليك أينما كان. كانت الرسائل الواردة تحمل ذات شغف ورهبة الرسائل الورقية مع فارق السرعة والدهشة التي لا تنقطع.
تخيل أنك في وسط كل تلك المشاعر المختلطة تتلقى رسالة غامضة، مكتوبة لك ومعنونة باسمك، تعرض عليك شهادة جامعية دون دراسة أو امتحانات. فقط تذكر أن الرسالة كانت في بداية عصر الأنترنت وأنها مكتوبة بلغة إنجليزية راقية وأن الجامعة جامعة بريطانية عنوانها في لندن. تذكر أيضاً أنك تسمع بذلك الأمر للمرة الأولى في حياتك (حين كانت الشهادات لاتزال تحتفظ بهيبتها). شهادة جامعية من جامعة أجنبية على بعد اتصال هاتفي فقط..هل تستطيع مقاومة ذلك الإغراء؟
لم يستطع الفتى الملول مقاومة الإغراء والاتصال.. رقم دولي وصوت أجنبي يتحدث الإنجليزية يسأل عن رغبة صاحبنا في الحصول على الشهادة. دار الحوار باللغة الإنجليزية، وأخبره المتحدث أنهم جامعة عريقة (هكذا قال) وأن عنوانهم معروف في لندن ويستطيع زيارتهم في أي وقت، وأنهم يمنحون شهادات جامعية بناء على الخبرة الحياتية، وعرض عليه مجموعة من التخصصات في الأدب والتاريخ واللغة والسياحة والفنون وعندما سأله صاحبنا عن تخصصات أخرى كالهندسة والطب اعتذر بأنهم لا يمنحون شهادات في تخصصات مهنية يتطلب العمل بها رخصة مزاولة مهنة، لكنه عاد وأكد أن شهاداتهم قانونية تماماً وأنه يحق لحاملها أن يطلق على نفسه لقب دكتور دون مساءلة وأنهم إضافة إلى الشهادة سيعدون له سجلاً أكاديمياً وخطابات تزكية وأنهم مستعدون للرد على أي استفسار يردهم عن تاريخه كطالب في الجامعة!. فقط كل ما عليك هو تحديد التخصص ودفع رسوم الشهادة.
كان الفتى يعيد النظر كل بضع دقائق في شاشة الجوال ليتأكد أن ما يسمعه حقيقي وليس من وحي خياله، كان ينوي أن يخوض المغامرة العجيبة ولو على سبيل التسلية كسابقة يتندر بها مع أقرانه لكن ما منعه كان السعر الباهظ من وجهة نظره الذي طلبه المتصل والذي كان يفوق بمراحل مكافأته الجامعية الهزيلة..لم يكن الفتى يعلم أن تلك المزحة التي استكثر ثمنها ستتحول إلى سيل هادر من الشهادات يغرق البلاد، وأنها ستتحول إلى تجارة قذرة تقدر بمئات الملايين وتصبح هاجساً قانونياً يناقش في مجالس صنع القرار..و خلال مرور كل تلك السنين ظل يتساءل، ترى هل الشعب بتلك السذاجة ليشتري ورقة لا قيمة لها بتلك المبالغ الباهظة؟ أم أنه هو الساذج الذي فوت الفرصة ومازال لا يفهم الدنيا حتى الآن؟
نشرت هذه المادة في صحيفة الشرق المطبوعة العدد رقم (١٦٠) صفحة (١٧) بتاريخ (١٢-٠٥-٢٠١٢)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق