ثمة
مصادفات تترك أثرها العميق في وجدانك مهما تراكمت فوقها الذكريات و مهما تزاحمت من
بعدها الأحداث، مصدافات تحفر وشمها العميق على روحك و أفكارك مهما امتد بك الزمن و
لا تستطيع محو أثرها مهما حاولت.
كيف
يمكنني أن أنسى ذلك اليوم البعيد ساعة الظهيرة و الحر الخانق و شارع عباس العقاد
في القاهرة هادئ و شبه مقفر على خلاف العادة، ربما كانت الرطوبة الخانقة هي السبب
أو ساعة الظهيرة التي لا تشجع أحداً على الخروج للتسوق، كان ذلك الكشك الخشبي
المطلي باللون الأخضر يقبع وحيداً في نهاية الشارع بواجهة زجاجية ضيقة وباب موارب
كأنه يتردد في دعوة أحد للدخول، تقترب و أنت في حيرة من أمرك، فضول عجيب يدفعك
لمواصلة السير تحت سطوة الشمس لتبلغه لتدفع ذلك الباب الموارب، ترى هل كانت تلك
كتباً؟ تلك المعروضة عى الواجهة الزجاجية. هل هذا شعار دار الهلال على الباب
الخشبي؟ تدفع الباب فتجد رجلا سميناً أفزعة اقتحامك المفاجئ يحدق فيك و هو يجفف
العرق عن صلعته لكنك لا تبالي، أنت أيضاً أذهلتك المفاجأة، كل تلك الأغلفة المبهرة
للروايات تطالعك ،بخطوطها المرحة و الجذابة و التي عرفت لاحقاً أن معظمها بريشة المبدع
حلمي التوني. تناديك في إغراء و قلبك يخفق من السعادة كطفل و جد نفسه في مصنع
الشكولا.
ستظل
مدينا لتلك اللحظة الباهرة التي تعرفت فيها لأول مرة و أنت مراهق صغير على مبدعين
عظام كبهاء طاهر و خيري شلبي و صنع الله إبراهيم و محمد جبريل و ..و محمد البساطي.
في تلك
الليلة كنت على موعد مع العالم الآسر لمحمد البساطي، اكتشفت لأول مرة تلك اللغة
الشفيفة التي تكني ولا تصرح، تومئ ولا تقول،تمرر و لا تسدد.ذلك الضوء الضغيف الذي
لا يكشف شيئاً ضوء "ساعة مغرب" يحدثك عن "أصوات الليل" و
"صخب البحيرة" و يعدك ب "ليال أخرى" أكثر إمتاعاً.
كان محمد
البساطي بالنسبة لي كاتباً قادماً من عالم آخر فهو زاهد إلى حد كبير في الظهور
الإعلامي و لم أجد له حتى بعد وفاته إلا حوارات شحيحة لا تتجاوز أصابع اليد، يكتفي
بإصدار رواية أو مجموعه قصصية كل بضعة أعوام و يتركها تثير الجدل و يتوارى مجدداً.
كأنه لا ينتمي إلى هذا العالم أو أنه غير راض عنه و لا يحب الإنتماء إليه ولولا
حاجته للنشر لاكتفى بالكتابة لنفسه، و الحمد لله أنه لم يفعل.
و رغم
أنه من كتاب الستينات الثوريين الذين يعادون سياسات الانفتاح و التطبيع إلا أنه لم
يترك شيئاً من مواقفه السياسية يتسرب إلى
كتاباته، فتجد في كل شخصياته التي يرسمها رهافة و أقتصاداً شديداً في العبارة و
عناية فائقة بالتفاصيل و قدرة على الوصف و التخييل لجعل الأشياء و المواقف البسيطة
تقول ما تود أن تسمعه دون صوت و دون صخب. فتجده يتحدث عن ال"جوع" و
"الأيام الصعبة" و يخبرك بما يجري خلف ال"أسوار" دون أن يصرح
بقبح تلك الأشياء بل يغزل مفرداتها في نسيج حكائي صغير و باهر في ذات الوقت تماماً
كما يفعل كبار الكتاب العالميين في رواياتهم.
إن كنت
لم تقرأ للبساطي من قبل فربما تجد في روايته القصيرة"دق الطبول" مدخلاً
سلساً لعوالمه، حيث تتحدث الرواية عن بلد عربي غني و صغير تأهل منتخبه لكأس العالم
فسافر كل سكان البلد لتشجيع المنتخب و بقي الخدم و العمال وحدهم في البلاد
يتبادلون الحكايا و الخبايا التي يكنونها في صدورهم في حالة بوح إنساني ممتد على
طريقة ألف ليلة و ليلة حتى عودة أهل الدار
و قد سئل
رحمه الله في حوار نادر عن طريقته في الكتابة فقال إنه بعد أن يفرغ من الكتابة
الأولى للنص ينصرف عنه "حتى يبرد" و يشغل نفسه لمدة يوم أو عدة أيام في
عمل يدوي داخل المنزل ثم يعود إليه بعد أن يبرد ليقرأه بتأن و حيادية فيهذبه و
يحذف منه و ربما أعاد كتابته من جديد.
و كم
استوقفتني كلمة "حتى يبرد" و أحسست بمدى قوة و حرارة الوهج الذي يشع منه
لحظة الكتابة و التي تجعل العمل الأدبي لديه
أشبه بسبيكة نادرة من الذهب المشغول بمهارة و التي تحتاج وقتاً كي تبرد حتى
يتمكن الجواهرجي من تقويمها و تهذيب شذوذها قبل أن يعرضها للقراء.
رحل
البساطي عن عالمنا في هدوء قبيل شهر رمضان المبارك بعد معاناة مع السرطان و برحيله يفقد عالم الأدب أحد أجمل جواهره و
أكثرها أصالة و إن لم تكن أكثرها لمعاناً
*****
تنويه:العبارات
بين الأقواس هي عناوين لأعمال محمد البساطي رحمه الله
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق