ثمة
كتب تترك أثرها العميق في وجدانك، تغير
نظرتك للحياة و العالم من حولك، تأخذ
بتلابيبك و تهزك حتى إذا تركتك لم تعد
ذات الشخص الذي أمسك بالغلاف قبل ساعات.
تلك
العينة النادرة من الكتب لا تندرج تحت
تصنيف معين و لا تقتصر على ما يخطه الأدباء،
بل قد تكون كتب في مجال الفلسفة أو التاريخ
أو السياسة أو الفن بتعريفه الواسع، لكن
ثمة عوامل مشتركة تجمعها جميعاً:
عمق
الفكرة و سلاسة العبارة و الأهم من ذلك
هو حرارة الصدق التي تنبعث من بين ثنايا
السطور فتكاد تلسع أناملك و أنت تقرأ!.
كتاب
"حياتي"
لأحمد
أمين هو أحد تلك الكتب النادرة، كتاب من
كتب السيرة الذاتية التي تأخذ بيدك في
رفق و تجول بك في عالم صاحبها بكل تجرد و
تواضع بلا تصنع أو ادعاء، يحكي بعين الراوي
فصول حياته الحافلة، يمزج ببراعة بين
وصف المشاهد و الأماكن و الشخصيات و بين
مشاعره و انطباعاته تجاهها، و كيف أثر
ذلك الموقف أو تلك الحادثة في مسار حياته
الحافل.
أحمد
أمين صاحب فجر الإسلام، و ضحى الإسلام،
و قائمة مهمة من الكتب، و عميد كلية الآداب
في جامعة القاهرة، و رئيس تحرير مجلة
الثقافة العريقة، و لجنة التأليف و الترجمة
و النشر في عصرها الذهبي، يطرح عن نفسه
كل تلك الألقاب و يلاقيك في الكتاب بكل
تواضع و إنسانية، يحكي عن حزنه الدائم و
يحاول أن يجد له تبريراً بوفاة شقيقته في
الوقت الذي كان حملاً في بطن أمه فيقول
(تغذيت
دماً حزيناً، و رضعت بعد ولادتي لبناً
حزيناً، و استقبلت عند و لادتي استقبالاً
حزيناً، فهل كان لذلك أثر فيما غلب علي
من الحزن في حياتي فلا أفرح كما يفرح
الناس، و لا أبتهج كما يبتهجون؟)،
يحكي عن بيتهم الصغير المفروش بالحصير،
عن راتب أبيه المتواضع، و عن إخوته الذين
تخطفهم الموت و المرض، و أمه التي تحملت
مشقة الحياة بصبر و رضا، عن حارتهم الضيقة،
عن الجيران، عن النساء في ذلك الزمان و
حجابهن و طريقة مشيهن في الحارة، عن الأزهر
و حلقاته و توهانه في دراسته، ثم انتقاله
إلى المدرسة النظامية، عن دارسته اللغة
الإنجليزية بجهد شخصي في المنزل ثم على
يد معلمة انجلزية أعجب بها لاحقاً و لكنه
لم يصارحها بذلك الحب!.
عن
انتقاده للوضع السياسي في خطبة حماسية
في إحدى الحفلات و ما كادت تجره عليه من
أذى، عن رفاقه في طريق البحث و المعرفة،
عن طه حسين تحديداً، و كيف تلازما ثم
افترقا دون أن يبين السبب و إن كان يحتفظ
له بالود و الفضل.
عن
حيرته بين عمامة الأزهري، و طربوش الأستاذ
الجامعي، عن حرمانه من لقب الدكتوراه و
المناصب و تحويلها لغيره في مواقف عدة
بسبب آرائه السياسية، عن رحلاته المتعددة
حول العالم، ثم محطته الأخيرة مقعداً في
المنزل شبه كفيف محروماً من متعته الوحيدة
في الحياة و هي مرافقة الكتب.
حياة
حقيقة حافلة ستنبعث بين يديك و أنت تمسك
دفتي الكتاب..
حياة
تصيبك بشيء من الحسرة على ما آلت إليه مصر
اليوم..
و
ما آل إليه حال الثقافة فيها من ترد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق