لم
تكن القسوة من طبعكم يوماً..
لكن
كأن حبكم و لطفكم كان سداً يحجز سيل الأسى
الجارف الذي انطلق هادراً بمجرد رحيلكم.
أي
قسوة تلك التي تجعلكم تغلقون في وجوهنا
أبواب غرف قلوبكم الدافئة، تحملون مفاتحها
و ترحلون..و
تتركوننا لبرد الانتظار الذي لا يرحم.!
ترحلون
بلا سابق تمهيد و لا تلويحة وداع..
تحملون
حقائب البهجة و أثواب السعادة معكم و لا
تتركون لنا سوى مرارة الذكريات.
ترحلون
فتتركون في زجاج الروح شرخاً و في رغيف
القلب قضمة و في محجر العين دمعة لا تنطفئ.
تحملون
بعضاً منا معكم فنظل في حيرة الفقد و فتنة
السؤال و متاهة البحث عن ضمادة توقف نزيف
الجرح الذي لا يندمل
ما
عادت الدنيا من بعدكم كما كانت..
تشرق
الشمس وتتفتح الأزهار و تغرد العصافير و
لكن لا بهجة ضياء هناك و لا طرب ألوان
و نغم هنا.
ثمة
شيء قد ذهب، شيء سلب الحواس قدرتها على
تذوق النشوة، على الاستمتاع و البهجة،
كل الألوان تضاءلت لتصبح بين الأسود و
الرمادي، و كل الأنغام تلاشت لتصبح أقرب
لنواح مرير لا ينقطع.
مالذي
فعلتموه بنا بذلك الغياب الأقرب للخديعة؟
لستم أنتم من بدلتم الدار و السكن؛ بل
نحن..
نحن
الذين أصبحنا غرباء و أيتام في دار تبدو
كأنها ذات الدار، و شوارع تتظاهر بأنها
ذات الشوارع و زوايا لم نعد نعرفها رغم
أنها تتدعي العكس.
كل
شيء تنكر لنا برحيلكم و أصبح نائياً و
بارداً، و ها نحن نعود أطفالاً صغاراً
ضلوا الطريق في يوم مزدحم و ينتظرون أباهم
كي يعود و يجدهم..لكننا
نعرف أن لا أحد سيعود..
و
أن غربتنا و اتظارنا دائمين كلعنة لا
تزول!
.......
.......
لا
شيء في الدنيا يشعرني بمدى ضعفي و يتمي و
قلة حيلتي مثل "المعلاة"*..
فرغم
الشيب الذي يغزو قلبي لازلت أشعر كلما
دخلتها أنني ذات الطفل التائه الذي دخلها
قبل ثلاثة عقود و هو يركض جاهداً للحاق
بجنازة أبيه و يتخبط بين السيقان و لا
يشعر به أحد.
لا
زلت أشعر بذات الغصة و ذات الحيرة وذات
الفقد ..بذات
العتب على أبي الذي مضى سريعاً و تركني
بعيدا خلفه لا أكاد أدركه.
رغم كل تلك
السنوات، لازلت أخشى المعلاة..لازلت
أستشعر قسوتها و وحشة رمالها، فكلما
وطأتها بقدمي أعود و قد فقدت بعضي في
جوفها ..
أخرج
أشكو ألم الجراح الغائرة..
الجراح
التي التي على عمقها و اتساعها....لا
يكاد يراها أحد!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*
المعلاة:
مقبرة
لأهالي مكة قرب الحرم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق