الثلاثاء، 3 ديسمبر 2019

هل أنت راضٍ عن ذاتك؟


Image result for a man for all seasons

ما هو رأيك في نفسك؟ تأمل انعكاسك قليلاً في المرآة، لا تلتفت لنضارة بشرتك وتسريحة شعرك والتجاعيد الصغيرة التي ظهرت مؤخراً تحت عينيك. تجاهل كل ذلك قليلاً وانظر في وجهك مباشرة كأنك تخاطب إنساناً آخر منفصلاً عنك، حدق في تلك العينين خلف الزجاج، وتساءل بينك وبين نفسك، ما هو رأيك في ذلك الواقف هناك؟ هل يبدو لك أهلاً للثقة؟ هل هو شهم كريم صادق يقول كلمة الحق ولو على نفسه؟ هل هو شجاع لا يتردد عن مواجهة الخطأ؟. لا تتسرع في الحكم من فضلك، فكلنا نملك صورة إيجابية عظيمة عن أنفسنا، كلنا نرى أنفسنا نقية كريمة وشجاعة، ونجد مختلف المبررات لأفعالنا في أي موقف يواجهنا، علماء النفس يقولون إن ذلك شيء طبيعي كي يسمح لنا بأن نتعايش مع الحياة ونملك الدافع لمكابدتها والمنافسة على مكاسبها شريطة أن لا يؤدي ذلك لتضخم الذات والانفصال عن الواقع والدخول في دوامة الوهم.
تأمل ذلك الوجه المحدق عبر الزجاج مرة أخرى، استرجع آخر مأزق خضته مؤخراً، استرجعه بحيادية كأنه لا يخصك ويخص ذلك الواقف هناك، اسأله هل كان ما فعله مبرراً أخلاقياً؟ هل تلك التجاوزات الصغيرة التي ارتكبها مقبولة كي ينجو من الضرر أو كي ينال المنفعة؟ ربما تقول وما المانع من تجاوزات صغيرة، كذبة بيضاء على رئيسك في العمل، تخطي إشارة حمراء لا رقيب عليها، واسطة عند أحد المعارف لتسريع معاملة قبل الآخرين، وربما غض النظر عن تجاوز هنا وتجاوز هناك في المقابل، وتمضي الحياة بلا عقد.
قد يكون ذلك صحيحاً من الوهلة الأولى، لكن إن تأملته بتدقيق أكبر ربما يصبح مزلقاً مراوغاً يصعب الإفلات منه، تراكم التنازلات الصغيرة عن المبادئ يجعل التمييز لاحقاً بين ما هو صغير وما هو كبير أكثر صعوبة، ويجعل المرء في حالة رخاوة مزمنة لا يقوى بعدها على الصمود عند امتحان ثباته على المبادئ الكبرى.
ثمة قصة جميلة كتبها الكاتب الإنجليزي روبرت بولت عن حادثة حقيقية وقعت في إنجلترا في القرن السادس عشر، كان هنري الثامن هو الحاكم في ذلك الوقت، وكانت زوجته عاجزة عن إنجاب ولي للعهد ووريث للعرش، ولأن الكنيسة الرومانية التي تتبع لها إنجلترا لا تجيز الطلاق في ذلك الوقت لجأ هنري الثامن إلى مستشاريه طالباً النصيحة. فأشاروا عليه بخلع التبعية لروما وإعلان نفسه كمرجعية دينية للبلاد وليطلق ويتزوج كما يشاء. أعجب الحاكم بذلك الرأي وبدأ يطالب أصدقاءه ورجال البلاط بتأييد القرار، كان من بين الحاشية فرسان شجعان، وقادة جيوش وقضاة ونبلاء وقساوسة وتجار وكلهم كانوا يعرفون أن ما يفعله هنري الثامن هو تجديف وعبث خطير بالقيم بمقاييس ذلك الزمان، لكنهم جميعاً آثروا الصمت بل والمباركة والتأييد، شخص واحد فقط خرج عن الدائرة هو قاضي القضاة والصديق المقرب للملك، رجل وديع مسالم لا يملك سوى سمعته وإيمانه بمبادئه، حاول الملك في البداية أن يغريه بالمناصب فاعتذر بأدب، عزله عن وظيفته وأملاكه فواصل الصمت، لم يكن في أي لحظة داعياً للمعارضة أو للخروج على الحاكم لكنه في نفس الوقت كان يحترم مبادئه ويتحفظ عن تأييد ما حصل، لكن حتى ذلك الصمت لا يعجب حاشية الملك التي باعت مبادئها مبكراً وباتت تشعر أن موقف القاضي محرج لها وفاضح فتقرر كسر إرادته بشتى الطرق، يتم استدعاؤه للتحقيقات، لكن لا جريمة في القانون تجرم الصمت فيتم اختراع قانون عجيب يلزم كل المواطنين بأداء القسم بأن هنري الثامن هو المرجعية الدينية للبلاد فقط؛ كي يجدوا مبرراً لسجنه عندما يمتنع، لكنه حتى في سجنه يصيبهم ثباته بالجنون، يحاولون الضغط عليه بأفراد عائلته الذين يحبهم، يمنحونه الوعود بالخروج واستعادة ما مضى بمجرد أن يوافق لكنه رغم هزاله وضعفه الشديدين ورغم شخصيته الهادئة المهذبة يمتنع عن التراجع أو التنازل، تتهمه ابنته بأنه يلقي بنفسه للتهلكة بحثاً عن بطولة زائفة، فيخبرها أنه لا يفكر لحظة واحدة في ذلك، وأنه لم يخلق ليكون بطلاً، و لو استطاع أن يهرب من السجن لهرب وطار نحوهم، لكنه لا يستطيع أن يبات ليلة واحدة وهو خائن لضميره، وهو الشيء الوحيد الذي يجعله يتحمل البقاء.
وبالفعل تضيق الأرض بما رحبت بكلمة صدق واحدة مهما كانت خافتة، ولا يستطيع النفاق بكل جيوشه وجبروته أن يتجاهل رجلاً وحيداً يقول لا. فيقرر الجميع إعدام الخائن وقطع رأسه على المقصلة أمام الجماهير، لتسيل دماء الرجل الوحيد الذي قرر ألا يخون مبادئه مداناً بالخيانة العظمى.
تأمل مرة أخيرة وجه صاحبك في المرآة، واسأله هل هو صادق وشجاع فعلاً؟ ترى ما هو الثمن الذي لديه استعداد كي يدفعه للدفاع عن مبادئه عندما تمتحن؟
لا تنتظر الإجابة الآن لأنها صعبة، أطفئ النور وانصرف في هدوء.
في هدوء وكثير من التواضع من فضلك!

الأربعاء، 14 أغسطس 2019

كي لا تكون تعيساً مثل "ماتيلدا"



ثمة قصة قصيرة شهيرة وممتعة للكاتب الفرنسي موباسان، يعرفها معظم محبي القصص حول العالم، تحكي القصة حكاية ماتيلدا، الزوجة الجميلة ذات الطموح، التي لا يعجبها أحوال زوجها المادية، وتتمنى أن تعيش عيشة الأثرياء أصحاب الجاه والنفوذ، يحاول زوجها أن يرضيها، ويشبع رغباتها قدر استطاعته، وينجح ذات يوم في أن يحصل على بطاقة دعوة إلى حفلة في منزل الوزير، لا تشعر ماتيلدا بالسعادة لتلك الدعوة، لأنها لا تملك ثوباً فخماً يليق بالحفل، فيجتهد زوجها ويشتري لها ثوباً فاخراً، يُرضي غرورها الأنثوي، لكن تبقَّت لديها مشكلة المجوهرات، فهي لا تملك مجوهرات ثمينة مثل باقي النساء المدعوات من المنتميات إلى الطبقة المخملية، هنا تتذكر إحدى صديقات طفولتها الثريات، فتطلب منها أن تعيرها شيئاً من حليها لتحضر بها الحفل، تعرض صديقتها «صندوق جواهرها» لماتيلدا، فتختار عقداً ماسياً في علبة مخملية فخمة الصنع، وتكتمل سعادتها بحضور الحفل في أبهى زينة، وتلفت لها أنظار الجميع في سهرة امتدت حتى اقتراب الفجر، ولكنها تكتشف عند عودتها إلى المنزل أنها فقدت العقد الثمين من صدرها، يجن جنونها، وينزل زوجها للبحث عن العقد في الطريق، وفي عربات الأجرة، وفي كل مكان، دون جدوى، و»يسقط في أيديهما» إذ لابد أن يعود العقد إلى صاحبته، وبعد أن يفشلا في العثور عليه، يقرران شراء عقد شبيه بالأول، ويفاجئهما ثمنه المهول، الذي يفوق قيمة مدخراتهما بأضعاف مضاعفة، لكنهما يشتريانه بدين ذي فائدة فاحشة، ويعيدانه إلى صاحبته دون أن تلاحظ الفرق، وتبدأ رحلة الشقاء لسداد الدين الكبير، فيتخلَّيان عن شقتهما الواسعة، ويسكنان في غرفة متواضعة «فوق السطوح»، وتتخلى ماتيلدا عن الخادم، وعن مظاهر الرفاهية، وتعمل في أعمال يدوية متعددة مع زوجها لسداد الدين، ونتيجة لذلك الشقاء تفقد جمالها، ورقتها القديمتين، وتصبح امرأه خشنة أشبه بالعمال. وذات يوم، وبعد عشر سنوات من الشقاء، قابلت ماتيلدا صديقتها القديمة، التي أعارتها العقد صدفة في السوق، وبعد أن أبدت صديقتها عجبها من حالها المزري، الذي آلت إليه، حكت لها ماتيلدا قصة العقد المفقود، والخراب الذي حلَّ بها وزوجها بسببه، هنا فغرت صديقتها فاهها دهشة، وسألتها: هل اشتريتِ عقداً ماسياً بديلاً لعقدي الضائع؟ فأجابتها ماتيلدا: نعم. أجابت صديقتها بدهشة: ولكنه عقد من الماس الصناعي الرخيص، ولا يساوي إلا فرنكات قليلة يا ماتيلدا!.
طبعاً لا شيء يمكن أن يصف مقدار الحسرة والألم الذي ستعيشه ماتيلدا، وهي تكتشف أن عمرها وشبابها ومالها قد ضاعوا على عقد مزيف لا يستحق، وأنها أفنت عشر سنوات من حياتها تكد وتتعب دون داعٍ.
تكمن رمزية القصة وجمالها في أن كل واحد منا لديه عقد شبيه بعقد ماتيلدا، ربما يكون في معتقد خاطئ، أو علاقة فاشلة، أو وظيفة غير مناسبة. كلنا يخوض يومياً عشرات المعارك الصغيرة والكبيرة، ويستهلك كثيراً من طاقته وعافيته ووقته وماله دون أن يسأل نفسه: هل ما أدافع عنه حقيقي؟ هل هو ذو قيمة فعلية؟ وهل يستحق الثمن الذي أدفعه لأجله؟
ربما قد حان الوقت لنجلس جلسة فحص دقيق لكل ما نملك من أفكار وعلاقات ومشاريع، ونتأكد أيها الحقيقي الذي يستحق، وأيها المزيف الذي حان التخلص منه قبل أن يصبح مصيرنا مثل مصير ماتيلدا صاحبة العقد