الثلاثاء، 3 ديسمبر 2019

هل أنت راضٍ عن ذاتك؟


Image result for a man for all seasons

ما هو رأيك في نفسك؟ تأمل انعكاسك قليلاً في المرآة، لا تلتفت لنضارة بشرتك وتسريحة شعرك والتجاعيد الصغيرة التي ظهرت مؤخراً تحت عينيك. تجاهل كل ذلك قليلاً وانظر في وجهك مباشرة كأنك تخاطب إنساناً آخر منفصلاً عنك، حدق في تلك العينين خلف الزجاج، وتساءل بينك وبين نفسك، ما هو رأيك في ذلك الواقف هناك؟ هل يبدو لك أهلاً للثقة؟ هل هو شهم كريم صادق يقول كلمة الحق ولو على نفسه؟ هل هو شجاع لا يتردد عن مواجهة الخطأ؟. لا تتسرع في الحكم من فضلك، فكلنا نملك صورة إيجابية عظيمة عن أنفسنا، كلنا نرى أنفسنا نقية كريمة وشجاعة، ونجد مختلف المبررات لأفعالنا في أي موقف يواجهنا، علماء النفس يقولون إن ذلك شيء طبيعي كي يسمح لنا بأن نتعايش مع الحياة ونملك الدافع لمكابدتها والمنافسة على مكاسبها شريطة أن لا يؤدي ذلك لتضخم الذات والانفصال عن الواقع والدخول في دوامة الوهم.
تأمل ذلك الوجه المحدق عبر الزجاج مرة أخرى، استرجع آخر مأزق خضته مؤخراً، استرجعه بحيادية كأنه لا يخصك ويخص ذلك الواقف هناك، اسأله هل كان ما فعله مبرراً أخلاقياً؟ هل تلك التجاوزات الصغيرة التي ارتكبها مقبولة كي ينجو من الضرر أو كي ينال المنفعة؟ ربما تقول وما المانع من تجاوزات صغيرة، كذبة بيضاء على رئيسك في العمل، تخطي إشارة حمراء لا رقيب عليها، واسطة عند أحد المعارف لتسريع معاملة قبل الآخرين، وربما غض النظر عن تجاوز هنا وتجاوز هناك في المقابل، وتمضي الحياة بلا عقد.
قد يكون ذلك صحيحاً من الوهلة الأولى، لكن إن تأملته بتدقيق أكبر ربما يصبح مزلقاً مراوغاً يصعب الإفلات منه، تراكم التنازلات الصغيرة عن المبادئ يجعل التمييز لاحقاً بين ما هو صغير وما هو كبير أكثر صعوبة، ويجعل المرء في حالة رخاوة مزمنة لا يقوى بعدها على الصمود عند امتحان ثباته على المبادئ الكبرى.
ثمة قصة جميلة كتبها الكاتب الإنجليزي روبرت بولت عن حادثة حقيقية وقعت في إنجلترا في القرن السادس عشر، كان هنري الثامن هو الحاكم في ذلك الوقت، وكانت زوجته عاجزة عن إنجاب ولي للعهد ووريث للعرش، ولأن الكنيسة الرومانية التي تتبع لها إنجلترا لا تجيز الطلاق في ذلك الوقت لجأ هنري الثامن إلى مستشاريه طالباً النصيحة. فأشاروا عليه بخلع التبعية لروما وإعلان نفسه كمرجعية دينية للبلاد وليطلق ويتزوج كما يشاء. أعجب الحاكم بذلك الرأي وبدأ يطالب أصدقاءه ورجال البلاط بتأييد القرار، كان من بين الحاشية فرسان شجعان، وقادة جيوش وقضاة ونبلاء وقساوسة وتجار وكلهم كانوا يعرفون أن ما يفعله هنري الثامن هو تجديف وعبث خطير بالقيم بمقاييس ذلك الزمان، لكنهم جميعاً آثروا الصمت بل والمباركة والتأييد، شخص واحد فقط خرج عن الدائرة هو قاضي القضاة والصديق المقرب للملك، رجل وديع مسالم لا يملك سوى سمعته وإيمانه بمبادئه، حاول الملك في البداية أن يغريه بالمناصب فاعتذر بأدب، عزله عن وظيفته وأملاكه فواصل الصمت، لم يكن في أي لحظة داعياً للمعارضة أو للخروج على الحاكم لكنه في نفس الوقت كان يحترم مبادئه ويتحفظ عن تأييد ما حصل، لكن حتى ذلك الصمت لا يعجب حاشية الملك التي باعت مبادئها مبكراً وباتت تشعر أن موقف القاضي محرج لها وفاضح فتقرر كسر إرادته بشتى الطرق، يتم استدعاؤه للتحقيقات، لكن لا جريمة في القانون تجرم الصمت فيتم اختراع قانون عجيب يلزم كل المواطنين بأداء القسم بأن هنري الثامن هو المرجعية الدينية للبلاد فقط؛ كي يجدوا مبرراً لسجنه عندما يمتنع، لكنه حتى في سجنه يصيبهم ثباته بالجنون، يحاولون الضغط عليه بأفراد عائلته الذين يحبهم، يمنحونه الوعود بالخروج واستعادة ما مضى بمجرد أن يوافق لكنه رغم هزاله وضعفه الشديدين ورغم شخصيته الهادئة المهذبة يمتنع عن التراجع أو التنازل، تتهمه ابنته بأنه يلقي بنفسه للتهلكة بحثاً عن بطولة زائفة، فيخبرها أنه لا يفكر لحظة واحدة في ذلك، وأنه لم يخلق ليكون بطلاً، و لو استطاع أن يهرب من السجن لهرب وطار نحوهم، لكنه لا يستطيع أن يبات ليلة واحدة وهو خائن لضميره، وهو الشيء الوحيد الذي يجعله يتحمل البقاء.
وبالفعل تضيق الأرض بما رحبت بكلمة صدق واحدة مهما كانت خافتة، ولا يستطيع النفاق بكل جيوشه وجبروته أن يتجاهل رجلاً وحيداً يقول لا. فيقرر الجميع إعدام الخائن وقطع رأسه على المقصلة أمام الجماهير، لتسيل دماء الرجل الوحيد الذي قرر ألا يخون مبادئه مداناً بالخيانة العظمى.
تأمل مرة أخيرة وجه صاحبك في المرآة، واسأله هل هو صادق وشجاع فعلاً؟ ترى ما هو الثمن الذي لديه استعداد كي يدفعه للدفاع عن مبادئه عندما تمتحن؟
لا تنتظر الإجابة الآن لأنها صعبة، أطفئ النور وانصرف في هدوء.
في هدوء وكثير من التواضع من فضلك!

الأربعاء، 14 أغسطس 2019

كي لا تكون تعيساً مثل "ماتيلدا"



ثمة قصة قصيرة شهيرة وممتعة للكاتب الفرنسي موباسان، يعرفها معظم محبي القصص حول العالم، تحكي القصة حكاية ماتيلدا، الزوجة الجميلة ذات الطموح، التي لا يعجبها أحوال زوجها المادية، وتتمنى أن تعيش عيشة الأثرياء أصحاب الجاه والنفوذ، يحاول زوجها أن يرضيها، ويشبع رغباتها قدر استطاعته، وينجح ذات يوم في أن يحصل على بطاقة دعوة إلى حفلة في منزل الوزير، لا تشعر ماتيلدا بالسعادة لتلك الدعوة، لأنها لا تملك ثوباً فخماً يليق بالحفل، فيجتهد زوجها ويشتري لها ثوباً فاخراً، يُرضي غرورها الأنثوي، لكن تبقَّت لديها مشكلة المجوهرات، فهي لا تملك مجوهرات ثمينة مثل باقي النساء المدعوات من المنتميات إلى الطبقة المخملية، هنا تتذكر إحدى صديقات طفولتها الثريات، فتطلب منها أن تعيرها شيئاً من حليها لتحضر بها الحفل، تعرض صديقتها «صندوق جواهرها» لماتيلدا، فتختار عقداً ماسياً في علبة مخملية فخمة الصنع، وتكتمل سعادتها بحضور الحفل في أبهى زينة، وتلفت لها أنظار الجميع في سهرة امتدت حتى اقتراب الفجر، ولكنها تكتشف عند عودتها إلى المنزل أنها فقدت العقد الثمين من صدرها، يجن جنونها، وينزل زوجها للبحث عن العقد في الطريق، وفي عربات الأجرة، وفي كل مكان، دون جدوى، و»يسقط في أيديهما» إذ لابد أن يعود العقد إلى صاحبته، وبعد أن يفشلا في العثور عليه، يقرران شراء عقد شبيه بالأول، ويفاجئهما ثمنه المهول، الذي يفوق قيمة مدخراتهما بأضعاف مضاعفة، لكنهما يشتريانه بدين ذي فائدة فاحشة، ويعيدانه إلى صاحبته دون أن تلاحظ الفرق، وتبدأ رحلة الشقاء لسداد الدين الكبير، فيتخلَّيان عن شقتهما الواسعة، ويسكنان في غرفة متواضعة «فوق السطوح»، وتتخلى ماتيلدا عن الخادم، وعن مظاهر الرفاهية، وتعمل في أعمال يدوية متعددة مع زوجها لسداد الدين، ونتيجة لذلك الشقاء تفقد جمالها، ورقتها القديمتين، وتصبح امرأه خشنة أشبه بالعمال. وذات يوم، وبعد عشر سنوات من الشقاء، قابلت ماتيلدا صديقتها القديمة، التي أعارتها العقد صدفة في السوق، وبعد أن أبدت صديقتها عجبها من حالها المزري، الذي آلت إليه، حكت لها ماتيلدا قصة العقد المفقود، والخراب الذي حلَّ بها وزوجها بسببه، هنا فغرت صديقتها فاهها دهشة، وسألتها: هل اشتريتِ عقداً ماسياً بديلاً لعقدي الضائع؟ فأجابتها ماتيلدا: نعم. أجابت صديقتها بدهشة: ولكنه عقد من الماس الصناعي الرخيص، ولا يساوي إلا فرنكات قليلة يا ماتيلدا!.
طبعاً لا شيء يمكن أن يصف مقدار الحسرة والألم الذي ستعيشه ماتيلدا، وهي تكتشف أن عمرها وشبابها ومالها قد ضاعوا على عقد مزيف لا يستحق، وأنها أفنت عشر سنوات من حياتها تكد وتتعب دون داعٍ.
تكمن رمزية القصة وجمالها في أن كل واحد منا لديه عقد شبيه بعقد ماتيلدا، ربما يكون في معتقد خاطئ، أو علاقة فاشلة، أو وظيفة غير مناسبة. كلنا يخوض يومياً عشرات المعارك الصغيرة والكبيرة، ويستهلك كثيراً من طاقته وعافيته ووقته وماله دون أن يسأل نفسه: هل ما أدافع عنه حقيقي؟ هل هو ذو قيمة فعلية؟ وهل يستحق الثمن الذي أدفعه لأجله؟
ربما قد حان الوقت لنجلس جلسة فحص دقيق لكل ما نملك من أفكار وعلاقات ومشاريع، ونتأكد أيها الحقيقي الذي يستحق، وأيها المزيف الذي حان التخلص منه قبل أن يصبح مصيرنا مثل مصير ماتيلدا صاحبة العقد

الجمعة، 1 مايو 2015

رعب الصفحة البيضاء


هذا رعب من نوع خاص.. رعب لا علاقة له بالظلام والأشباح والأرواح الهائمة. رعب لا تشاهده في الأفلام المصنفة للكبار فقط و لا تقرأ عنه في الروايات وقصص المغامرات المثيرة. رعب لادماء فيه ولا أسلحة ولا أمعاء تتمزق ولا صرخات فزع أو احتضار.. رعب نظيف هو..رعب ناصع البياض..لكنه البياض الذي يهز عمود تماسكك الداخلي ويصيبك بذعر أقرب للشلل.
رعب الصفحة البيضاء ينتقي الكتاب والمبدعين تحديداً، ويصيبهم جميعاً في أوقات مختلفة ودرجات متفاوته فلا يكاد ينجو من قبضته أحد، و إن كانت بطشته قاتلة في بعض الأحيان ولا شفاء منها.
أصعب لحظات الإبداع و الكتابة هي تلك اللحظة التي يواجه فيها الكاتب مرآة الصفحة الخالية أمامه، عندما يقرر أخيراً أن يحول كل ما يدور في ذهنه وقلبه من صور وخيالات وأحلام وهواجس إلى نص مكتوب.. لحظة خاصة جداً يتداخل فيها الشغف والحماسة والتوجس والخوف والقلق والرعبة الحارقة في البوح. خليط حاد وحارق من المشاعر يعرف إحساسه وطعمه كل كاتب مارس الكتابة ذات يوم.. تلك اللحظة الخاصة جداً رغم حدتها واشتعالها هي ما يمنح الكاتب- أي كاتب- شعوره الداخلي بالغرور والرضا عن النفس. ذلك التوازن الدقيق بين الرهبة و الرغبة ولحظات التردد و الحيرة ثم انفجار السد وجريان النهر واسكاب المعنى في قوالب الكلمات هي لحظات الإبداع التي تُشعر من يجترحها أنه اقتربَ و دنى وذاقَ الثمرة المحرمة التي لم يطعمها سواه إلا قليل.
لكن تلك اللحظات على سحرها لاتخلو من مكر و لؤم. فهي لا تسلم قيادها لمن اعتقد أنه يملكها فتهجره و تتوارى عنه في اللحظة التي يعتقد أنها أصبحت من عاداته و طوع بنانه. يواجه الكاتب صفحته البيضاء و ينتظر ذلك الدفق الحارق في العروق و السيل الجارف من الأفكار..ينتظر..وينتظر ..و يطول انتظاره و لاشيء يأتي. يخادع نفسه قليلا، يخط سطوراً باردة لعلها تستحث البقية لكنه يدرك سريعاً أنه يخادع نفسه و أن مايكتبه مجرد زجاج بارد لا جواهر حقيقية صهرتها نار الإبداع. يعود ليمزق ماكتب، يتعاظم بياض الصفحة أمام عينيه ليصبح حائطاً مهولاً يستحيل اجتيازه، تزحف قبضة باردة لتعتصر قلبه ببطء، يشعر أنه سجين معزول عن العالم وأن كل تلك الحظات الحميمة صارت وهماً بعيد المنال و أنه سيبقى هنا خلف الجدار الأبيض حزيناً بائساً لا يدري أحد بمدى غربته وفقره وعوزة وقلة حيلته.
كم تستمر أوقات الرعب تلك؟ هل يصمد الكاتب أمامها حتى تأتي لحظة الفرج وينهار السد الأبيض؟ أم أنه سيستلم و يتوارى هرباً من رعب الصفحة البيضاء؟
سعداء الحظ من الكتاب وحدهم من يملكون ترف الإجابة!




في طريق الأذى


لم يكن المشهد السياسي معقداً و ملتبساً بهذا الشكل في ذلك الوقت، لم تكن هناك ثورات و ثورات مضادة. لم تكن هناك دول مفككة وجماعات مسلحة ورهائن يذبحون على الشاشة ثم يتطور الذبح ليصبح عملية شواء تبث مباشرة عبر الشاشات. كانت الأمور أكثر بساطة و أقل تشابكاً قبل أن تبدأ أحجار الدومينو في التهاوي في سلسة سريعة بدأت في ذلك اليوم المشهود..يوم الحادي عشر من سبتمبر ٢٠٠١ والذي لم يعد عالمنا بعده كما كان قبله أبداً، ولن يعود.
مكالمة غامضة على هاتف جوال لصحفي تلفزوني بدأ يشق طريق الشهرة ببرنامجه الناجح على قناة مثيرة للجدل، يلتقط الرجل بحسه الصجفي طرف الخيط من مكتبه في لندن، اتصال ثم رسالة فاكس أكثر غموضاً، ثم رحلة عبر المجهول إلى كراتشي في باكستان، كانت أشهر قد مرت على حادثة سبتمبر، والعالم يراقب لهاث المخابرات الأمركية وهي تبحث عن طرف خيط يدلها على الفاعلين بلاجدوى. يصل الصحفي إلى المطار و يتوجه إلى فندقه وينتظر، مكالمات غامضة وتوجيهات أقرب لأحداث فيلم سيء الإخراج، سيارة مجهولة تقتاده إلى مكان مجهول وعصابة تغطي عينيه، ثم يجد نفسه فجأة في عرين الأسد وجها لوجه مع من خططا ودبرا أحداث الحادي عشر من سبتمبر ليقضي معهما يومين كاملين، ويصور بكاميرا غير احترافية أول لقاء يتحدث فيه مباشرة من قاموا بتلك المهمة الصادمة.
كان ذلك هو يسري فودة الصحفي بقناة الجزيرة وهو يقابل رمزي ابن الشيبة و خالد شيخ محمد أخطر مطلوبين للاستخبارات الأمريكية ويقضي ليلته في ضيافتهما و يعود إلى لندن محملاً بكنز من المعلومات لم تكن تملكه اجهزة استخبارات أقوى دولة في العالم وحلفاوها مجتمعين.
في كتابه" في طريق الأذى" الصادر حديثاً عن دار الشروق، يروي يسري فودة تفاصيل تلك الرحلة المثيرة و يكشف عن خبايا وتداعيات ماحصل بعد ذلك وكيف تسرب الخبر للاستخبارات الأمريكية عبر قناة الجزيرة، وكيف قابله أمير قطر شخصياً ليطلب منه أشرطة التسجيلات التي قام بها. وكيف انقلبت الدنيا عليه بعد ذلك عندما تم القبض على خالد شيخ ورمزي ابن الشيبة في وقت مقارب لتاريخ بث المقابلة والبرنامج و تم اتهامه بشكل مباشر بالإيقاع بهما.
تفاصيل ممتعه ومثيرة يرويها الكتاب في جزئه الأول قبل أن يخوض في سياق مغامرة أخرى خاضها المؤلف في عام ٢٠٠٦ في جزئه الثاني عندما حاول العبور إلى بغداد عبر سوريا على خطى المجاهدين و مقابلة زعيم إحدى التنظيمات المقاتلة في العراق لكن الرحلة كادت أن تودي به نحو الهلاك فعاد أدراجه بعد أن جاب نصف العراق برفقة الدليل و بعد أن مرت فوق رأسه طائرة وزير الدفاع الأمريكي ذاته وأوشكت على قصف السيارة التي يستقلها.

كتاب جميل يستحق القراءة والاقتناء، لكنه لا ينفك يثير التساؤل عن مصير يسري فودة نفسه وأين أصبح بعد كل تلك القصص المثيرة والواعدة!

أبعدَ الأربعين اغترارُ؟


ثمة شيء ما يتعلق بسن الأربعين، كأنه نقطه يفقد المرء فيها اتزانه لبعض الوقت، يدرك متأخراً أنه تجاوز مرحلة الصبا والشباب دون أن يشعر، أن القطار المزدحم بالأمنيات و الأحلام قد أبطأ من سرعته و أن محطة الوصول قد اقتربت كثيراً. يدرك أن كلمة "المستقبل" لم تعد شيكاً مفتوحاً في وجه القادم من الأيام وأن ما لم يحققه أكثر بكثير مما حققه و أقل بكثير مما كان يحلم به. ذلك الرقم المميز تحديداً أصاب الشعراء والأدباء جميعاً بالصدمة، كلهم ارتطموا بحائط الأربعين الخشن الذي يعترض درب أحلامهم وجموحهم، كلهم خربشوا شيئاً من خواطرهم على أحجاره الصلبة، خربشات قلقة وساخطة أحياناً كثيرة، وهادئة ومتأملة أحياناً أقل. لكنهم جميعاً يُجمعون على الإحساس بالخديعة، بالدهشة و الاستلاب، وكأن الشباب كان حقاً أبدياً لهم و أستيقظوا فجأة ليجدوه قد فارقهم بلا عودة، فتجد فاروق جويدة يناجي أمه:

الطفل يا أماه يسرع نحو درب الأربعين.. أتصدقين؟
ما أرخص الأعمار في سوق السنين!.

و ها هو غازي القصيبي يقف حائراً أمام بوابة الأربعين:

وها أنا ذا أمام الأربعين .. يكاد يؤودني حمل السنين
تمر الذكريات رؤى شريط .. تلون بالمباهج والشجون
إذا ما غبت في طيف سعيد .. هفت عيني إلى طيف حزين
......
......
أطالع في المودع من شبابي .. كما نظر الغريق إلى السفين
وارتقب الخبء من الأماسي .. بذعر الطفل من غده الخؤون


و ليست مناجاه الأربعين حكراً على الشعراء المعاصرين وحدهم فها هو أبو فراس الحمداني يتحسر على أيام الشباب و الغزل التي ولت بعد بلوغه الأربعين فيقول متسائلاً في مطلع قصيدة طويلة يسرد فيها بطولات شبابه مع الحسان:

وقوفك في الديار عليك عارُ .. وقد رُدَّ الشبابُ المستعارُ
أبعد الأربعين محرمات .. تماد في الصبابة، واغترارُ؟

لكن لحسن الحظ ليست كل الوقفات أمام الأربعين متشائمة بهذا الشكل فنجد "عباس العقاد" يلخص حاله في الأربعين بكلمات متزنه مقطرة بالحكمة:
"كنت في العشرين كالجالس على المائدة وهو يظن أن أطايب الطعام لا تزال مؤخرة محجوزة لأنه لم يجد أمامه طعاماً يستحق الإقبال...فهو لهذا يزهد فيما بين يديه ويتشوق لما بعده حتى إذا أشفق أن ينهض جائعاً تناول مما بين يديه باعتدال فأمن الجوع وأمن فوات المقبل الموعود"

ولا شك أن أجمل و أبرع وأشمل و أرق وصف وصفت به سن الأربعين هو ماذكره العلي القدير في كتابه الكريم حين قال ".. حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحاً ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإنني من المسلمين"
فهي سن اكتمال الرشد والقوة و ذهاب الطيش وتجديد التوبة و استشعار نعمة الله فيها وهي سن يتلذذ المرء بالجمع فيها بين بر الوالدين و تربية الذرية وطلب صلاحها ومن ثم إدراك فضل التواضع في الانتماء لجماعة المسلمين دون تعالٍ أو غرور.



في ذكرى صاحب الحلم



"لدي حلم بأن يأتي يوم يعيش فيه أطفالي وسط شعب لا يُحكم فيه على الناس بلون بشرتهم بل بما تنطوي عليه أخلاقهم"

وسط جمع هادر وتحت سماء غائمة وقف يخطب بلا وجل، يخطب في شعب مقهور يعاني الظلم والاضطهاد منذ عقود ويتوق للانتقام واستعادة حقوقة بأي ثمن. لكنه اختار طريقاً صعباً، صعباً على أصدقائه وعلى أعدائه في ذات الوقت. لقد اختار أن يناضل وأن يطالب بحقوقه و حقوهم بلا عنف وبلا دماء، وقف يخطب خطبته الحلم أمام أكثر من ربع مليون متظاهر خرجوا يشتكون ظلم الدولة الكبرى التي حاربت في كل أركان الأرض دفاعاً عن الحريات لكنها ظلمت أبناء شعبها واضطهدتهم.

"لدي حلم بأنه في يوم ما سيستطيع أبناء العبيد السابقين الجلوس مع أبناء أسياد العبيد السابقين على منضدة الإخاء"

لم يكن يستحضر في ذهنه ليال السجن و أيام الاعتقال، لم يكن ليبالي بالتهديدات والاستفزازات، لم يلتفت ولو قليلاً لحملات التشويه والتشكيك التي لحقت به و بمن معه من المناضلين.
كان العنف و الدم والترهيب يلاحقه في كل خطوة يخطوها، في كل موعظة يلقيها، في كل مظاهرة أو تجمع أو اضراب. ألقوا القنابل على بيته وكنيسته و مدارس أطفاله. حرقوا ونهبوا ممتلكات الفقراء من أتباعه، لعله ينهار أو ينزلق نحو العنف فيسهل القضاء عليه لكنه ظل صامداً حتى النهاية.

"لدي حلم بأننا سنكون قادرين على شق جبل اليأس بصخرة الأمل. سنكون قادرين على تحويل أصوات الفتنة إلى لحن إخاء عذب..بهذا الإيمان سنكون قادرين على العمل معاً والصلاة معاً والكفاح معاً والدخول إلى السجون معاً والوقوف من أجل الحرية معاً عارفين بأننا سنكون أحراراً يوماً ما"

كانت قضيته واضحة وضوح الشمس، رفع الظلم عن الملونين، وتحقيق المساواه بين الأبيض والأسود. ورغم بداهة وبساطة ماطالب به إلا أنه -صدق أو لاتصدق- كان يعتبر جريمة في أمريكا بلاد الحرية قبل خمسين عاماً فقط!.
هذه الجريمة قادته إلى السجن بتهم عدة منها تأليب الرأي العام، وتعطيل العمل و مصالح الدولة. كما أن مدير جهاز المباحث الفيدرالية تفرغ لمطاردته والتجسس عليه وتشويه سمعته، ولفق له تهماً بأنه شيوعي وزير نساء. ولكن كل الطرق فشلت في حجب صوت الحقيقة الذي ينادي بها عندها كان لابد من إسكاته بالطريقة التي لاتخيب أبداً...الاغتيال.

في الرابع من أبريل عام ١٩٦٨ أطلق قناص عنصري النار على مارتن لوثر كنج وهو يهم بإلقاء إحدى خطبه ليروي بدمائه آخر فصول كفاحه العظيم ضد العنصرية ويجبر حكومة الولايات المتحدة على توقيع قانون يجرم التفرقة بين المواطنين بناء على لونهم أو جنسهم وليتردد صدى أمنيته الكبرى..

"دعوا الحرية تدق..من كل قرية و كل ولاية..عندها سيكون اقترب اليوم الذي يغني فيه كل الأطفال مهما اختلفت أجناسهم أغنية الزنجي القديمة.. أحرار في النهاية..أحرار في النهاية شكراً يارب العالمين.. نحن أحرار في النهاية!”