السبت، 2 مايو 2015

بودكاست محبرون: العصافير تتبادل السباب








الجمعة، 1 مايو 2015

رعب الصفحة البيضاء


هذا رعب من نوع خاص.. رعب لا علاقة له بالظلام والأشباح والأرواح الهائمة. رعب لا تشاهده في الأفلام المصنفة للكبار فقط و لا تقرأ عنه في الروايات وقصص المغامرات المثيرة. رعب لادماء فيه ولا أسلحة ولا أمعاء تتمزق ولا صرخات فزع أو احتضار.. رعب نظيف هو..رعب ناصع البياض..لكنه البياض الذي يهز عمود تماسكك الداخلي ويصيبك بذعر أقرب للشلل.
رعب الصفحة البيضاء ينتقي الكتاب والمبدعين تحديداً، ويصيبهم جميعاً في أوقات مختلفة ودرجات متفاوته فلا يكاد ينجو من قبضته أحد، و إن كانت بطشته قاتلة في بعض الأحيان ولا شفاء منها.
أصعب لحظات الإبداع و الكتابة هي تلك اللحظة التي يواجه فيها الكاتب مرآة الصفحة الخالية أمامه، عندما يقرر أخيراً أن يحول كل ما يدور في ذهنه وقلبه من صور وخيالات وأحلام وهواجس إلى نص مكتوب.. لحظة خاصة جداً يتداخل فيها الشغف والحماسة والتوجس والخوف والقلق والرعبة الحارقة في البوح. خليط حاد وحارق من المشاعر يعرف إحساسه وطعمه كل كاتب مارس الكتابة ذات يوم.. تلك اللحظة الخاصة جداً رغم حدتها واشتعالها هي ما يمنح الكاتب- أي كاتب- شعوره الداخلي بالغرور والرضا عن النفس. ذلك التوازن الدقيق بين الرهبة و الرغبة ولحظات التردد و الحيرة ثم انفجار السد وجريان النهر واسكاب المعنى في قوالب الكلمات هي لحظات الإبداع التي تُشعر من يجترحها أنه اقتربَ و دنى وذاقَ الثمرة المحرمة التي لم يطعمها سواه إلا قليل.
لكن تلك اللحظات على سحرها لاتخلو من مكر و لؤم. فهي لا تسلم قيادها لمن اعتقد أنه يملكها فتهجره و تتوارى عنه في اللحظة التي يعتقد أنها أصبحت من عاداته و طوع بنانه. يواجه الكاتب صفحته البيضاء و ينتظر ذلك الدفق الحارق في العروق و السيل الجارف من الأفكار..ينتظر..وينتظر ..و يطول انتظاره و لاشيء يأتي. يخادع نفسه قليلا، يخط سطوراً باردة لعلها تستحث البقية لكنه يدرك سريعاً أنه يخادع نفسه و أن مايكتبه مجرد زجاج بارد لا جواهر حقيقية صهرتها نار الإبداع. يعود ليمزق ماكتب، يتعاظم بياض الصفحة أمام عينيه ليصبح حائطاً مهولاً يستحيل اجتيازه، تزحف قبضة باردة لتعتصر قلبه ببطء، يشعر أنه سجين معزول عن العالم وأن كل تلك الحظات الحميمة صارت وهماً بعيد المنال و أنه سيبقى هنا خلف الجدار الأبيض حزيناً بائساً لا يدري أحد بمدى غربته وفقره وعوزة وقلة حيلته.
كم تستمر أوقات الرعب تلك؟ هل يصمد الكاتب أمامها حتى تأتي لحظة الفرج وينهار السد الأبيض؟ أم أنه سيستلم و يتوارى هرباً من رعب الصفحة البيضاء؟
سعداء الحظ من الكتاب وحدهم من يملكون ترف الإجابة!




في طريق الأذى


لم يكن المشهد السياسي معقداً و ملتبساً بهذا الشكل في ذلك الوقت، لم تكن هناك ثورات و ثورات مضادة. لم تكن هناك دول مفككة وجماعات مسلحة ورهائن يذبحون على الشاشة ثم يتطور الذبح ليصبح عملية شواء تبث مباشرة عبر الشاشات. كانت الأمور أكثر بساطة و أقل تشابكاً قبل أن تبدأ أحجار الدومينو في التهاوي في سلسة سريعة بدأت في ذلك اليوم المشهود..يوم الحادي عشر من سبتمبر ٢٠٠١ والذي لم يعد عالمنا بعده كما كان قبله أبداً، ولن يعود.
مكالمة غامضة على هاتف جوال لصحفي تلفزوني بدأ يشق طريق الشهرة ببرنامجه الناجح على قناة مثيرة للجدل، يلتقط الرجل بحسه الصجفي طرف الخيط من مكتبه في لندن، اتصال ثم رسالة فاكس أكثر غموضاً، ثم رحلة عبر المجهول إلى كراتشي في باكستان، كانت أشهر قد مرت على حادثة سبتمبر، والعالم يراقب لهاث المخابرات الأمركية وهي تبحث عن طرف خيط يدلها على الفاعلين بلاجدوى. يصل الصحفي إلى المطار و يتوجه إلى فندقه وينتظر، مكالمات غامضة وتوجيهات أقرب لأحداث فيلم سيء الإخراج، سيارة مجهولة تقتاده إلى مكان مجهول وعصابة تغطي عينيه، ثم يجد نفسه فجأة في عرين الأسد وجها لوجه مع من خططا ودبرا أحداث الحادي عشر من سبتمبر ليقضي معهما يومين كاملين، ويصور بكاميرا غير احترافية أول لقاء يتحدث فيه مباشرة من قاموا بتلك المهمة الصادمة.
كان ذلك هو يسري فودة الصحفي بقناة الجزيرة وهو يقابل رمزي ابن الشيبة و خالد شيخ محمد أخطر مطلوبين للاستخبارات الأمريكية ويقضي ليلته في ضيافتهما و يعود إلى لندن محملاً بكنز من المعلومات لم تكن تملكه اجهزة استخبارات أقوى دولة في العالم وحلفاوها مجتمعين.
في كتابه" في طريق الأذى" الصادر حديثاً عن دار الشروق، يروي يسري فودة تفاصيل تلك الرحلة المثيرة و يكشف عن خبايا وتداعيات ماحصل بعد ذلك وكيف تسرب الخبر للاستخبارات الأمريكية عبر قناة الجزيرة، وكيف قابله أمير قطر شخصياً ليطلب منه أشرطة التسجيلات التي قام بها. وكيف انقلبت الدنيا عليه بعد ذلك عندما تم القبض على خالد شيخ ورمزي ابن الشيبة في وقت مقارب لتاريخ بث المقابلة والبرنامج و تم اتهامه بشكل مباشر بالإيقاع بهما.
تفاصيل ممتعه ومثيرة يرويها الكتاب في جزئه الأول قبل أن يخوض في سياق مغامرة أخرى خاضها المؤلف في عام ٢٠٠٦ في جزئه الثاني عندما حاول العبور إلى بغداد عبر سوريا على خطى المجاهدين و مقابلة زعيم إحدى التنظيمات المقاتلة في العراق لكن الرحلة كادت أن تودي به نحو الهلاك فعاد أدراجه بعد أن جاب نصف العراق برفقة الدليل و بعد أن مرت فوق رأسه طائرة وزير الدفاع الأمريكي ذاته وأوشكت على قصف السيارة التي يستقلها.

كتاب جميل يستحق القراءة والاقتناء، لكنه لا ينفك يثير التساؤل عن مصير يسري فودة نفسه وأين أصبح بعد كل تلك القصص المثيرة والواعدة!

أبعدَ الأربعين اغترارُ؟


ثمة شيء ما يتعلق بسن الأربعين، كأنه نقطه يفقد المرء فيها اتزانه لبعض الوقت، يدرك متأخراً أنه تجاوز مرحلة الصبا والشباب دون أن يشعر، أن القطار المزدحم بالأمنيات و الأحلام قد أبطأ من سرعته و أن محطة الوصول قد اقتربت كثيراً. يدرك أن كلمة "المستقبل" لم تعد شيكاً مفتوحاً في وجه القادم من الأيام وأن ما لم يحققه أكثر بكثير مما حققه و أقل بكثير مما كان يحلم به. ذلك الرقم المميز تحديداً أصاب الشعراء والأدباء جميعاً بالصدمة، كلهم ارتطموا بحائط الأربعين الخشن الذي يعترض درب أحلامهم وجموحهم، كلهم خربشوا شيئاً من خواطرهم على أحجاره الصلبة، خربشات قلقة وساخطة أحياناً كثيرة، وهادئة ومتأملة أحياناً أقل. لكنهم جميعاً يُجمعون على الإحساس بالخديعة، بالدهشة و الاستلاب، وكأن الشباب كان حقاً أبدياً لهم و أستيقظوا فجأة ليجدوه قد فارقهم بلا عودة، فتجد فاروق جويدة يناجي أمه:

الطفل يا أماه يسرع نحو درب الأربعين.. أتصدقين؟
ما أرخص الأعمار في سوق السنين!.

و ها هو غازي القصيبي يقف حائراً أمام بوابة الأربعين:

وها أنا ذا أمام الأربعين .. يكاد يؤودني حمل السنين
تمر الذكريات رؤى شريط .. تلون بالمباهج والشجون
إذا ما غبت في طيف سعيد .. هفت عيني إلى طيف حزين
......
......
أطالع في المودع من شبابي .. كما نظر الغريق إلى السفين
وارتقب الخبء من الأماسي .. بذعر الطفل من غده الخؤون


و ليست مناجاه الأربعين حكراً على الشعراء المعاصرين وحدهم فها هو أبو فراس الحمداني يتحسر على أيام الشباب و الغزل التي ولت بعد بلوغه الأربعين فيقول متسائلاً في مطلع قصيدة طويلة يسرد فيها بطولات شبابه مع الحسان:

وقوفك في الديار عليك عارُ .. وقد رُدَّ الشبابُ المستعارُ
أبعد الأربعين محرمات .. تماد في الصبابة، واغترارُ؟

لكن لحسن الحظ ليست كل الوقفات أمام الأربعين متشائمة بهذا الشكل فنجد "عباس العقاد" يلخص حاله في الأربعين بكلمات متزنه مقطرة بالحكمة:
"كنت في العشرين كالجالس على المائدة وهو يظن أن أطايب الطعام لا تزال مؤخرة محجوزة لأنه لم يجد أمامه طعاماً يستحق الإقبال...فهو لهذا يزهد فيما بين يديه ويتشوق لما بعده حتى إذا أشفق أن ينهض جائعاً تناول مما بين يديه باعتدال فأمن الجوع وأمن فوات المقبل الموعود"

ولا شك أن أجمل و أبرع وأشمل و أرق وصف وصفت به سن الأربعين هو ماذكره العلي القدير في كتابه الكريم حين قال ".. حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحاً ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإنني من المسلمين"
فهي سن اكتمال الرشد والقوة و ذهاب الطيش وتجديد التوبة و استشعار نعمة الله فيها وهي سن يتلذذ المرء بالجمع فيها بين بر الوالدين و تربية الذرية وطلب صلاحها ومن ثم إدراك فضل التواضع في الانتماء لجماعة المسلمين دون تعالٍ أو غرور.



في ذكرى صاحب الحلم



"لدي حلم بأن يأتي يوم يعيش فيه أطفالي وسط شعب لا يُحكم فيه على الناس بلون بشرتهم بل بما تنطوي عليه أخلاقهم"

وسط جمع هادر وتحت سماء غائمة وقف يخطب بلا وجل، يخطب في شعب مقهور يعاني الظلم والاضطهاد منذ عقود ويتوق للانتقام واستعادة حقوقة بأي ثمن. لكنه اختار طريقاً صعباً، صعباً على أصدقائه وعلى أعدائه في ذات الوقت. لقد اختار أن يناضل وأن يطالب بحقوقه و حقوهم بلا عنف وبلا دماء، وقف يخطب خطبته الحلم أمام أكثر من ربع مليون متظاهر خرجوا يشتكون ظلم الدولة الكبرى التي حاربت في كل أركان الأرض دفاعاً عن الحريات لكنها ظلمت أبناء شعبها واضطهدتهم.

"لدي حلم بأنه في يوم ما سيستطيع أبناء العبيد السابقين الجلوس مع أبناء أسياد العبيد السابقين على منضدة الإخاء"

لم يكن يستحضر في ذهنه ليال السجن و أيام الاعتقال، لم يكن ليبالي بالتهديدات والاستفزازات، لم يلتفت ولو قليلاً لحملات التشويه والتشكيك التي لحقت به و بمن معه من المناضلين.
كان العنف و الدم والترهيب يلاحقه في كل خطوة يخطوها، في كل موعظة يلقيها، في كل مظاهرة أو تجمع أو اضراب. ألقوا القنابل على بيته وكنيسته و مدارس أطفاله. حرقوا ونهبوا ممتلكات الفقراء من أتباعه، لعله ينهار أو ينزلق نحو العنف فيسهل القضاء عليه لكنه ظل صامداً حتى النهاية.

"لدي حلم بأننا سنكون قادرين على شق جبل اليأس بصخرة الأمل. سنكون قادرين على تحويل أصوات الفتنة إلى لحن إخاء عذب..بهذا الإيمان سنكون قادرين على العمل معاً والصلاة معاً والكفاح معاً والدخول إلى السجون معاً والوقوف من أجل الحرية معاً عارفين بأننا سنكون أحراراً يوماً ما"

كانت قضيته واضحة وضوح الشمس، رفع الظلم عن الملونين، وتحقيق المساواه بين الأبيض والأسود. ورغم بداهة وبساطة ماطالب به إلا أنه -صدق أو لاتصدق- كان يعتبر جريمة في أمريكا بلاد الحرية قبل خمسين عاماً فقط!.
هذه الجريمة قادته إلى السجن بتهم عدة منها تأليب الرأي العام، وتعطيل العمل و مصالح الدولة. كما أن مدير جهاز المباحث الفيدرالية تفرغ لمطاردته والتجسس عليه وتشويه سمعته، ولفق له تهماً بأنه شيوعي وزير نساء. ولكن كل الطرق فشلت في حجب صوت الحقيقة الذي ينادي بها عندها كان لابد من إسكاته بالطريقة التي لاتخيب أبداً...الاغتيال.

في الرابع من أبريل عام ١٩٦٨ أطلق قناص عنصري النار على مارتن لوثر كنج وهو يهم بإلقاء إحدى خطبه ليروي بدمائه آخر فصول كفاحه العظيم ضد العنصرية ويجبر حكومة الولايات المتحدة على توقيع قانون يجرم التفرقة بين المواطنين بناء على لونهم أو جنسهم وليتردد صدى أمنيته الكبرى..

"دعوا الحرية تدق..من كل قرية و كل ولاية..عندها سيكون اقترب اليوم الذي يغني فيه كل الأطفال مهما اختلفت أجناسهم أغنية الزنجي القديمة.. أحرار في النهاية..أحرار في النهاية شكراً يارب العالمين.. نحن أحرار في النهاية!”