الأربعاء، 22 فبراير 2012

ن




لا يوجد حرف أكثر دفئاً وحناناً من حرف النون، باستدارته الناعمة و ذراعيه المفتوحتين و تجويفه الذي يستعد لاحتضان العالم.
شبهه علماء اللغة بالدواة التي تمد القلم بزاده من العلم و بذلك فسروا القسم الإلهي به، فكانت "ن والقلم". الدواة و الحاضنة و الزاد و الملجأ و الملتجى للقلم و المداد للعلم و الثقافة و الحياة و النور.
رغم أن التاء كانت أداة التأنيث الدائمة في اللغة إلا أن النون وحدها استفردت بالدلالة على النساء، فكانت هي نون النسوة،و كأن الأنثى بكل ذلك الفيض من الحنان لا تحتمل قسوة التاء المربوطة التي تعزلها عن فضاء الصفحة البيضاء و العالم. لابد للأنثى أن تحتضن العالم بحبها و تحتويه في قلبها و تمنحنه كوامن فيضها، وحدها (النون) هي من تجاريها بنقطتها الوحيدة المستديرة المستقرة في باطنها، تحتويها كما تحتوي الأم جنينها، تحتضنها كما تحتضن حبيباً غائباً بكل كيانها فتجعله مركزاً لكل ذلك الفيض من الحب و الثراء.
ألم يحن الوقت لكي تبحث عن نونك الخاصة بك، ابحث عنها في أول من احتضنك و أنت نقطة صغيرة في رحمها، اركض نحوها، احتضنها بشوق و ادفن رأسك في صدرها، عد لتكون النقطة التي تحتويها بكيانها، اعط نفسك ترف الاحتضان و الانغماس في فيض الحنان الباذخ، ضمها إليك بقدر كل ما تعاظم فيك من ألم وجوع و قهر و حرمان،بلل صدرها بدمع الطفل الصغير الكامن فيك، ذلك الطفل الذي تاه منذ قرن و تحاول العثور عليه الآن في أحضانها.
انكفئ في حضن أمك، في نورها و نعيمها، لا تفعل ذلك لأنه واجب عليك، ولا لأنك تطلب رضاها، و لا لكي تنال التوفيق في يومك، افعله لأنك تحتاجه بشده، لأنك محظوظ جداً و سعيد جداً إن استطعت أن تناله. هناك، في قلب تجويف النون العظيمة، طاقة هائلة من الحب لو وزعت على الكون لجعلت الحيتان ترقص في البحر و النجوم تغني في السماء،و الصحارى تغتسل بنشوة المطر. طاقة من الحب تجعل الربيع سيد الفصول و الغزلان ملكات الغاب و البلابل وزراء القصر و ندماء الملكات. لكن كل ذلك الإكسير مخزون مخبؤ لك، مشفر على شفرة خلاياك و مسامات بشرتك و تجاعيد وجهك. كل ما تحتاجه هو أن تغمر نفسك فيه فتعود صبياً يافعاً ممتلئاً بالأمنيات.
لست بحاجة لتتسول الحب بعد اليوم من أحد، ولا أن تبحث عن القبول و الانسجام ممن قد ينمحه و يمنعه، دونك النبع كله و النهر ذاته، ما شق الأرض إلا لك و ما جرى إلا ليغمرك فلا تكن أعظم المحرومين بالإعراض عنه. أدركه الآن و انغمس فيه حتى الغرق، فأنت لا تدري متى يأتي اليوم الذي تطلبه فيه و لا تجده، فهو ككل الأشياء الجميلة لابد راحل!
ابحث عن باقي جملة النعيم من حولك، لا تنسى نونك الأخرى رفيقة دربك حبيبتك/زوجتك، لا تفرط في الإعراب كثيراً و لا تدقق في أحكام الصرف. اصنع جملتك الخاصة و قواعدك الخاصه ابتدئ منها و انتهي إليها انزلق على حواف النون لكن احرص دائماً أن تكون في داخلها، لا تقف على طرف الصفحة بعيداً و لا تفقد دهشتك من جمالها يوماً و ثق أنك كلما اقتربت أكثر كلما نلت من الدهشة و النشوة مالم تكن تحسب أنك نائله.
تلفت حولك، تأمل كل نون أحاطك الله بها، تأمل صغيراتك اللواتي يلعبن من حولك، تأمل بسماتهن و لمساتهن و صخبهن البديع، أطلق قيثارة قلبك لتدخل معهن في معزوفة الحب، أغمض عينيك قليلاً و اصغ لهن بروحك، دع فيض برائتهن يلامس شغاف وجدانك و يهز كيانك في رعشة نورانية لم تتذوقها من قبل، اقطع كل صلاتك بحروف الهجاء النابية و حركات الضبط الفجة، اكتب كل جملك مبتدئاً بحرف النون في أولها و وسطها و آخرها، تخيله مركبة نورانية تحملك لتطوف في نعيم الدنيا قبل أن تقلع بك محلقة نحو الجنة.
كم هم سعداء أولئك الذين أدركوا سر النون، الذين غاصوا في أعماق نعيمها و برد ريها. لازال هناك متسع من الوقت لتلحق بهم..فقط افتح عينيك جيداً و أعد قراءة سطور حياتك دقق في جملها و حروفها، أفعالها و ضمائرها، و ستندهش كم من نون عظيمة في حياتك لم تلق لها بالاً من قبل.بادر الآن يا صديقي..لا تخجل من تعلم حروف الهجاء مجدداً.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق