السبت، 24 ديسمبر 2011

طبيب و عاطل!




أعتقد جازماً أن ملف مشكلات الخدمات الصحية في بلادنا يتضخم بسرعة أكبر مما نتخيل، وأن تلك المشكلات تتداخل وتتعقد لتصبح مثل كرة من خيوط الصوف المتشابكة التي لا يُعرف لها طرف.
والمحزن في الأمر أن ثمن تلك المشكلات فادح ومكلف، وكلما تأخر إصلاحها أصبح ذلك الإصلاح أصعب وأبعد.
لكن الحديث عن الإصلاح هنا يبدو مثالياً أكثر من اللازم، إذا كان أصحاب الشأن في وزارة الصحة لا يرون أن هناك مشكلة من الأساس، وتتوالى تصريحاتهم بأن كل شيء على ما يرام، وأن الخطط الاستراتيجية للوزارة كفيلة بإصلاح كل شيء، وأن المسألة ليست سوى مسألة وقت فقط!.
ولأن الحديث عن الملف الصحي أضخم من أن يحتويه مقال، فسوف أكتفي اليوم بالإشارة إلى عقدة صغيرة من عقد كرة الصوف المرعبة، التي يصر مسؤولو الوزارة على أنها ليست كذلك.
في منتصف عام 2010 نشرت جريدة المدينة تحقيقاً مثيراً بعنوان (سبعون طبيباً عاطلاً في جدة.. أحدهم يعمل سائق ليموزين).
وتناول التقرير معاناة الأطباء من حديثي التخرج – معظمهم أطباء أسنان – الذين لم يجدوا لهم وظائف في مرافق وزارة الصحة في جدة. وكان رد الوزارة حازماً وفورياً بأن اتهمت هؤلاء الأطباء بأنهم يرفضون قبول وظائف أخرى شاغرة خارج مدينة جدة، وأن جميع وظائف مدينة جدة مشغولة بأطباء سعوديين!.
وهذا الإيضاح لا بد أن يعني أن الخدمات الصحية في مدينة جدة قد بلغت تمامها، وأن رفض الوزارة لتوظيف المزيد من الأطباء فيها يعني أن المدينة ليست بحاجة إلى المزيد منهم، لكن هل الوضع كذلك بالفعل؟ إن أي زيارة سريعة لأي مستشفى تخبرك بالعكس تماماً، ونظرة سريعة على قائمة المواعيد في العيادات الخارجية كفيلة بإصابتك بالذهول من طولها وامتدادها بالشهور والسنوات لعدد غير قليل من التخصصات، كما أن الإحصائيات الرسمية الصادرة من وزارة الصحة تدل على خلل كبير في نسبة عدد الأطباء إلى عدد السكان لدينا، ففي حين تبلغ هذه النسبة (16 طبيباً لكل عشرة آلاف ساكن) في السعودية، تملك الأردن 26 ولبنان 33 ومصر 24 طبيباً لكل عشرة آلاف ساكن.
كما أن المعدل السعودي هو الأدنى بين دول الخليج عموماً. (دليل الإحصاء السنوي لمنظمة الصحة العالمية 2010).
كيف يمكن تفسير هذا التناقض؟ كيف تجمع الوزارة بين رفض توظيف الأطباء والاعتراف بالحاجة الماسة لهم؟
تكمن نقطة الخلل الأساسية في أن نظام الموارد البشرية في وزارة الصحة لا يراعي المتطلبات الحقيقية للمجتمع، بل إنه في الحقيقة لا يخضع لسيطرة الوزارة من الأساس، فوزارة الصحة كسائر الوزارات ترتهن فيما تناله من وظائف لوزارتي المالية والخدمة المدنية، لا لما تقرره هي من احتياج فعلي، وبالتالي تخرج كل عام بهوة أكثر اتساعاً من العام الذي سبقه، لأن معدل الزيادة في عدد السكان لا يتناسب مع معدل الزيادة البطيء والبيروقراطي في عدد الوظائف التي تحصل عليها الوزارة، والمشكلة لا تقتصر على الأطباء حديثي التخرج، بل تتجاوزها لتبلغ وظائف الاستشاريين في مختلف التخصصات، وكي تتخيل عزيزي القارئ عمق وفداحة المشكلة سأضرب لك مثلاً بمدينة جدة مدار الحديث، ففي مستشفى العيون الوحيد في المدينة تبلغ قائمة الانتظار للعمليات شهوراً وربما سنوات بدون مبالغة.
وفي نفس الوقت هناك أكثر من طبيب استشاري في ذات المستشفى يعمل على وظيفة اختصاصي، نظراً لعدم توفر وظائف بدرجة استشاري في تخصصات العيون في جدة، والحل الذي تقدمه الوزارة للطبيب المجمد هو أن تعرض عليه الانتقال للعمل خارج جدة، حيث تتوفر وظيفة استشاري!. أي أن الوزارة تطلب من الطبيب الذي يعمل في مدينة يصاب فيها الناس بالعمى نتيجة انتظارهم سنوات لموعد العملية، تطلب منه الخروج من المدينة إذا أراد الحصول على وظيفة استشاري، لأن كل الوظائف مشغولة بأطباء سعوديين! وقس على ذلك التخصصات الأخرى كطب الأسنان وغيرها.
والحل؟ يبدأ الحل أولاً في الاعتراف بالمشكلة بشكل علني، وعدم التحرج من مناقشتها بصوت عالٍ أمام المجتمع، وإشراك أصحاب الشأن في النقاش لا الاكتفاء بلجان الغرف المغلقة وتقبل مناقشة إجراءات جذرية وقاسية لكنها ضرورية لحلحة عقدة كرة الصوف، أما الاكتفاء بامتداح متانة الخيوط وجودتها ولمعانها فلن يزيد المشكلة إلا تعقيداً.
صحيفة الشرق المطبوعة العدد رقم (٢٠) بتاريخ (٢٤-١٢-٢٠١١)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق