الأحد، 24 يونيو 2012

طبيب حكومي في عيادة خاصة..صح أم خطأ (٢-٢) (النص الكامل للمقال)



في أحيان كثيرة أتخيل أن وزارة الصحة أشبه برجل يحرس هرماً مقلوباً و أن كل همه أن يحافظ على وضع الهرم المقلوب و تعديله كلما مال و أنه يبذل الكثير من الجهد و الوقت لإتمام مهمته الشاقة و العجيبة ورغم ذلك فهو يبرر فعلته تلك لكل من ينتقده بإبراز خريطة بالهرم المقلوب و يقول له إنه يطبق النظام. بالطبع لم يخطر ببال الرجل المجتهد أن قلب الخريطة و تعديل النظام أفضل و أوفر جهداً من قلب الهرم و الاستماتة في الحفاظ عليه مقلوباً.

استعرضنا في الأسبوع الماضي بعض النقاط المتعلقة بوضع الخدمات الصحية في البلاد و ما كشفته الإحصائيات من نقص حاد في عدد الأطباء بالنسبة لعدد السكان و أن النسبة لدينا أقل بكثير من دول مثل لبنان و الأردن و مصر (بالطبع تجنبت ذكر ألمانيا و السويد و حتى اليونان كي نحافظ على الواقعية في الطرح). و أن ذلك النقص في عدد الأطباء يتضاعف إذا ابحثنا عن تخصصات بعينها أو انتقلنا إلى مناطق طرفية في البلاد بعيداً عن المدن الرئيسية حيث من المألوف أن يتقاطر المرضى على المطارات ليلحقوا بمواعيدهم في المستشفيات التخصصية في الرياض و جدة و المكتظة أصلاً بمراجعيها من داخل المدن . في وسط هذه المؤشرات المقلقة دعونا نرى كيف يتعامل النظام مع الطبيب المتخصص الذي نتفق جميعاً أن الحاجة إليه ماسة اليوم و غداً؟ لنفترض أن لدينا طبيباً استشارياً في جراحة الأعصاب أو العمود الفقري أو العيون مثلاً و هذا الطبيب يعمل في مستشفى تابع لوزارة الدفاع و الطيران أو الحرس الوطني و أن هذا الطبيب و حسب جدول المستشفى يدخل غرفة العمليات مرة واحدة في الأسبوع لأن أوقات غرف العمليات يتم توزيعها على كامل أقسام المستشفى و من النادر أن يحظى طبيب بأكثر من يوم في الأسبوع و ربما أقل من ذلك في معظم الأحوال، سيحصل الطبيب كذلك على يوم آخر للعمل في عيادة القسم الخارجية، و سيظل باقي الأسبوع بلا عمل حقيقي سوى المرور على المرضى المنومين و تغطية مناوباته في الحالات الطارئة فقط. بمعنى آخر فإن أكثر من ثلثي طاقة الطبيب الإستشاري يتم هدرها بلا فائدة. حسناً ماذا لو كان الطبيب نشيطاً و محباً للعمل و طلب أن يعمل في قطاع حكومي آخر ليوم أو يومين في الأسبوع؟ تخيل أن النظام لا يسمح له بذلك! و كي يقوم بذلك الفعل عليه أن يتابع جبلاً من المعاملات و التوقيعات كي يستطيع (خدمة مرضى إضافيين)!!. حسناً ماذا لو كان تخصص الطبيب النادر يتطلب أجهزة غير متوفرة في قطاعه؟ هل يستطيع العمل في قطاع آخر لبعض الوقت؟ الجواب لا يختلف كثيراً عن السؤال السابق.

حسناً ماذا عني كمريض؟ أليس من حقي الحصول على خدمات طبيب متميز يعمل في قطاع مغلق مثل المستشفى التخصصي أو الحرس الوطني؟ كيف يمكنني الوصول لطبيب متميز لديه وقت فراغ و استعداد لعلاجي لكن النظام يمنعه من ذلك؟ ولماذا تستميت الوزارة كي تقبض عليه بالجرم المشهود؟ للأسف لقد فهمت وزارة الصحة انتقادات الناس الحادة لتهاونها في مراقبة القطاع الخاص بطريقة خاطئة، و أول ما قامت به من تطبيق النظام هو تفريغ ذلك القطاع من الكفاءات الأكثر تميزاً و إنتاجية و مطاردتها في الردهات و الممرات في ما يشبه الثأر الشخصي بينها و بينهم كأنها معركة إثبات سيطرة و التي ذهب ضحيتها المرضى دون غيرهم.

ما تحتاجه الوزارة هو أن تدرك أن نظام الخدمة المدنية و الذي لا يفرق في التعامل بين كفاءة نادرة يحتاجها عدد كبير من المرضى و بين موظف إداري في قسم الأرشيف. (مع تقديرنا الكامل للموظف الإداري) لم يعد صالحاً لمواجهة تحديات اليوم. على الوزارة أن تعمل بطريقة أكثر ذكاء للتخلص من نظام الخدمة المدنية و التحول إلى نظام أكثر فعالية و مرونة كي تستطيع مواجهة الطلب المتزايد على خدماتها، و أن تنظر للقطاع الخاص كشريك في المهمة تقوم بتوجيهه و تطويره و تحسين خدماته لا عزله و تفريغه من الكفاءات. تخيلوا معي لو اعتمدت الوزارة نظام التشغيل الجزئي في مستشفياتها و صرفت رواتب الأطباء على قدر انتاجيتهم لا بقدر ساعات دوامهم، لو استعانت بأطباء مميزين من قطاعات أخرى و من القطاع الخاص وقت احتياجها لهم. لو ركزت على شراء خدمة الطبيب بدلاً من حصاره في رقم وظيفي و دفتر حضور.

ستكون مهمة تعديل الهرم المقلوب وقتها أسهل كثيراً من المكابرة بالحفاظ عليه في وضعه الحالي حيث الجميع خاسر ولا شك.




نشرت هذه المادة في صحيفة الشرق المطبوعة العدد رقم (٢٠٢) صفحة (١٧) بتاريخ (٢٣-٠٦-٢٠١٢)



العبارات الملونة بالأحمر لم يتم نشرها في الصحيفة!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق