الخميس، 23 أغسطس 2012

في وداع "الندوة".. ذكريات و تساؤلات


من يملك الصحف؟ هل يملكها أصحاب رأس المال الذين أصدروها و يجنون أرباحها؟ أم هي ملك لمحرريها و فنييها الذين يسهرون عليها و يمنحونها الحياة؟ أم هي ملك القراء الذين يشترونها و يتداولونها و يمنحونها شرعية الوجود؟ أم هي ملك لكل هؤلاء سوياً وكلهم شركاء بشكل أو بآخر في ملكيتها؟
الصحف و المجلات ليست مجرد مشاريع تجارية تطوى في غياهب النسيان بمجرد إغلاقها. كما أنها لا تستمد قيمتها و أحقية وجودها بعدد الريالات التي تحققها.
طافت بذهني هذه التساولات و أنا أقرأ خبر توقف صحيفة الندوة الذي طالعتنا به الأخبار الأسبوع الماضي و استبدال صحيفة جديدة بها. كم هو صعب أن تطوي مرحلة كبيرة من وجدانك وذكرياتك هكذا فجأة و بدون سابق إنذار. محطات كثيرة في تكويني أنا وجيلي من المكيين مرت بشكل أو بآخر عبر "الندوة". تذكرت وقوفي قبل عشرين عاماً في منتصف الليل أمام بوابتها الحديدية في حي "العمرة" منتظراً اللحظة التاريخية التي يفتح فيها الحارس الباب و يناولنا عدد الغد الذي يحمل نتيجة الثانوية العامة، لم تكن في تلك اللحظة مجرد بوابة حديدية صدئة بل كانت نافذة نورانية نحو المستقبل عبرت من خلالها نحو عالم جديد لازلت أخوض غماره إلى الآن. تذكرت ذلك اليوم الذي سبق تلك الليلة بسنوات عندما تجرأت و أرسلت أولى قصصي القصيرة مكتوبة بخطي الرديء على صفحة من صفحات دفتر المدرسة إلى رئيس القسم الأدبي الأستاذ "محمد موسم المفرجي" رحمه الله أطلبه فيها إبداء الرأي و التوجيه ففاجأني بالقصة منشورة في الملحق الأسبوعي على مساحة عريضة جمباً إلى جمب مع مواد الكتاب الكبار، أذكر أن عيناي اتسعتا غير مصدقتين و أن قلبي كاد يتوقف وقتها و أنا أتصفح الجريدة في البقالة في طريق عودتي من المدرسة، ظللت أحدق في الجريدة لفترة لا أدري كم طالت ثم انطلقت بها راكضاً نحو المنزل دون أن أدفع ثمن الصحيفة!.
كانت الندوة في بداية التسعينات رغم تواضع عدد صفحاتها و بساطة إخراجها تملك روحاً خاصة و نفساً صحفياً مخلوطاً بتفاصيل الحياة المكية و يومياتها فلا يخلو عدد من الحديث عن أهلها و أحوالهم ابتداء بالحج و الحجيج و انتهاءً بنادي الوحدة و مباريات فريقه الذي أطلقت عليه الجريده لقب "فرسان مكة". كما كان ملحقها الأدبي يخوض معارك أدبية عنيفة منذ منتصف الثمانينات ضد الحداثة و رموزها، و على صفحات الندوة قرأت لأول مرة اسم عبدالله الغذامي و سعيد السريحي و محمد الثبيتي (كمتهمين بالحداثة) و كنت أرقب المعركة من جبهة واحدة و وعيي يتفتح على حراك صاخب لكنه حيوي و جميل.
فيما بعد دخلت الندوة متاهات التطوير الشكلي،و اكتسبت الألوان و الإخراج و لكنها فقدت حسها المكي و ضاعت في الزحام. و رغم تراجعها في السنوات الأخيرة إلا أنها ظلت فرصة استثمارية سانحة كجريدة تملك رخصة الإصدار اليومي و تصدر من مكة المكرمة و تملك تاريخاً يمتد قرابة الستة عقود.
و الخطوة التطويرية الأخيرة بزيادة رأس مال المؤسسة خطوة منتظرة منذ زمن لكنها تطرح الكثير من التساؤلات، فإذا كان الاكتتاب تم بحسب أنظمة المؤسسات الصحفية و أنظمة هيئة سوق المال كما طالعتنا الصحف، فلماذا لم يتم الإعلان عنه بشكل واسع في الصحف كما يحدث مع باقي الشركات؟ و أعتقد أن الكثيرين ممن فاجأهم الخبر كانوا سيبادرون بالاكتتاب في المؤسسة لو أتيح لهم ذلك.
كما أن تغيير اسم الجريدة من جريدة الندوة إلى جريدة مكة. بدا و كأنه قطيعة كاملة مع الصحيفة الأم، فالعدد الجديد سيحمل الرقم واحد بطاقم جديد و رئيس تحرير جديد كما صرح الشيخ صالح كامل، فهل منحت الوزارة تصريحاً جديداً لجريدة مكة؟ أم أنها استخدمت نفس التصريح الخاص بالندوة؟ و ما الجدوى الاقتصادية التي ستعود على المؤسسة بالتخلص من اسم الندوة؟
إن النظام التنفيذي للمؤسسات الصحفية ينص على أنه"لا يحق للمؤسسة التوقف عن إصدار أي من مطبوعاتها المرخصة إلا بعد تقديم المبررات والدوافع للوزارة لدراستها مع التزام المؤسسة للوفاء بكل الالتزامات التي ترتبت عليها للآخرين" فيا ترى ماهي المبررات التي قدمت للوزارة و اقنعتها بإيقاف جريدة الندوة بهذه السرعه و المبادرة لإصدار جريدة أخرى رغم أن المؤسسة تخلصت من ديونها وزادت رأس مالها؟
و ما الجدوى من إصدار جريدة يومية جديدة من نفس المؤسسة على حساب جريدة قائمة لها تاريخها و كيانها؟
أرجو من معالي الوزير أن يفيدنا بتلك المبررات التي اقتنعت بها الوزارة فجريدة الندوة كما يعرف معاليه هي رئة مكة و أهلها و من حقهم على الأقل عندما يذهبوا لتأبينها أن يعرفوا سبب وفاتها.

نشرت هذه المادة في صحيفة الشرق المطبوعة العدد رقم (٢٥٨) صفحة (١١) بتاريخ (١٨-٠٨-٢٠١٢)

هناك 3 تعليقات:

  1. وكأن قدر هذه المدينة العظيمة والمقدسة ان يهدم ويزال ويلغى كل ما هو أثر وقديم فيها وهو - بالطبع- ليس قدرإلهي .. وإنما هو من صنيعة البشر .. وأي بشر هؤلاء الذين طمسوا وأزالوا معالم مدينة بكاملها ؟
    وأي مدينة هي؟.. وهي ليست مثل أي مدينة .. هي عاصمة العالم بأثره .

    ردحذف
  2. وإيقاف صحيفة " الندوة" وهي الصحيفة الوحيدة التي تصدر في مكة المكرمة وإصدار صحيفة أخرى بإسم آخر.. كان من الممكن إصدار هذه الصحيفة دون توقف " الندوة" وهذا ليس بكثير على مدينة بتاريخ وعظمة " مكة المكرمة"
    حفظ الله مكة الحبيبة وحماها من إستمرار " مسلسل" الطمس والتغيير ويكفي ماقامت به معاول الهدم والمسح خير قيام ! ..ولم يبق لنا منزلاً ولازقاقاً ولا حارةً ولا معلماً واحداً نتذكر من خلاله تاريخنا وماضينا الذي ذهب - في غمضة عين- من الوجود !
    ( فائقة طيب )

    ردحذف