الجمعة، 19 سبتمبر 2008

حضارة الوجبات السريعة:كتاب قد يغير نظرتك المعجبة بشطيرة البيغ ماك إلى الأبد!



الكتاب:
حضارة الوجبات السريعة
المؤلف:
ايريك سلوشر
الناشر:
الدار العربية للعلوم
قراءة:
د. فراس عالم


ما الذي يمكن أن يقدمه كتاب جديد عن الوجبات السريعة؟ المزيد من الهجاء في شطيرة الهمبرجر؟ تحذيرات من أثرها على الصحة العامة، و دورها الخطير في أمراض مثل: السمنة و تصلب الشرايين، و ارتفاع ضغط الدم، و نقص الفيتامينات....إلخ تلك القائمة العريضة من الاتهامات الصحيحة رغم كل شيء!! ذلك ما قد يتبادر إلى الذهن عند قراءة عنوان الكتاب الجديد للمؤلف الأمريكي (ايريك سلوشر) "أمة الوجبات السريعة" أو "حضارة الوجبات السريعة" كما ترجمته الدار العربية للعلوم في طبعته العربية. لكن في الحقيقة و على الرغم من أن الكتاب أفرد فصولاً عدة في تبيين الأثر الصحي للوجبات السريعة- إلا أنه أبعد ما يكون عن اعتباره مجرد نص في هجاء الهمبرجر؛ فهو يتناول الوجبات السريعة بمفهومها الحضاري الشامل و أثرها على المجتمع ككل من نواح متعددة ثقافية واقتصادية و اجتماعية أيضاً. فالمؤلف ينظر إلى الطعام على أنه أكثر من مجرد وجبة؛ بل فعل و مفهوم حضاري، يعكس تطور أو تدهور الحضارة انطلاقاً من فهم أعمق للمثل القائل (أنت ما تأكله).ولقد أصبحت الوجبات السريعة بناءً على هذا المفهوم أبرز مكوّن للثقافة الأمريكية خلال ثلاثة عقود فقط، ومن أكشاك صغيرة للنقانق في كاليفورنيا الجنوبية إلى تجارة يتجاوز حجمها (110) مليار دولار في عام 2001، أي أن الأمريكيين أنفقوا على الوجبات السريعة أكثر مما أنفقوه على التعليم العالي أو الحواسب الشخصية أو برامج الكمبيوتر أو السيارات. وأكثر من الأفلام السينمائية و الكتب و المجلات و الصحف وشرائط الفيديو و الموسيقى المسجلة مجتمعة!.
يعتقد المؤلف أن الضرر الأكبر الذي أحدثته شركات الوجبات السريعة ليس صحياً فحسب؛ بل يتعدى ذلك إلى أثر ثقافي اقتصادي يتمثل في تأسيس اقتصاد ينبني على التماثل و منح الامتياز، و نشر مبدأ أنت لن تنجح ما لم تنضم إلى فريقنا، و تتخلى عن خصوصيتك. و مبدأ التماثل هذا أو (الماكدنلة) كما يسميها المؤلف لم يقتصر على عالم الوجبات السريعة؛ بل تعداه إلى كل أوجه النشاط الاقتصادي الأمريكي و الدولي فيما بعد؛ إذ أصبح كل مظهر من مظاهر الحياة الأمريكية –تقريباً- إما مسلسلاً "تابعاً لسلسلة أو حاصلاً على حق امتياز. و هكذا بإمكان الإنسان الانتقال من المهد إلى اللحد بدون أن ينفق قرشاً واحداً على مؤسسة مستقلة.. لقد مُنحت حفنة من الشركات درجة غير مسبوقة من النفوذ على مخزون الأمة".
لكن أكثر ما يميز الكتاب منهجيته الشاملة في التوثيق و التحليل متتبعاً صناعة الوجبات السريعة منذ النشأة الأولى لها، و الأسباب الاجتماعية و الاقتصادية التي ساعدت على بزوغها، ثم ينتقل خلف طاولة البيع ليعرض الأساليب التي تتّبعها الشركات في توظيف عمالها و الإستراتيجية الغريبة التي تتبناها (لا لعمال دائمين..لا لعمال مهرة) حيث إن العامل القديم يكلف الشركة مبالغ متزايدة كل عام و يحصل على حقوق متزايدة مع الوقت؛ لذلك تفضل الشركات الاعتماد على عمال مؤقتين من طلبة الجامعات و المهاجرين الأجانب الذين يرضون براتب قليل و يتركون العمل بعد فترة قصيرة دون أن يُطالبوا بإجازات أو علاوات أو راتب تقاعدي؛ ولأجل ذلك راهنت الشركات على الآلة، فكل الوجبات السريعة مطهوّة مسبقا و لا تحتاج إلا لتسخين بسيط في أجهزة عملاقة مسبقة الضبط، كما أنه لا حاجة لإضافة التوابل لأن مصانع النكهات الصناعية العملاقة قد أضافت كل شيء مسبقاً إلى البطاطا و اللحم نكهات لذيذة من كل نوع لا علاقة لها بجودة اللحم و طزاجته.
ويكشف المؤلف في فصل تالٍ الأسباب التي تجعل المقالي لذيذة الطعم، تجربة أجراها في شركة الروائح و المنكهات الدولية التي تصنع النكهات و الروائح لشركات الوجبات السريعة فيقول: "أغلقت عيني و استنشقت بشكل عميق أحسست بروائح الأطعمة واحدة تلو الأخرى ..شممت رائحة كرز طازج و زيتون أسود و بصل مقلي و قريدس ثم رائحة همبرغر مشوية، و كانت رائحة لذيذة غير معلبة و كأن شخصاً يقلب قطع الهمبرغر على شواية حامية قريبة، و لكن عندما فتحت عيني لم يكن هناك سوى قطعة صغيرة من الورق و درزينة من الزجاجات الصغيرة، وعالم نكهة يبتسم"!! لكن الأسوأ بالفعل هو ما يأتي لاحقاً عندما يجوب (ايريك سلوشر) خلف مصادر الوجبات اللذيذة الطعم معظم الولايات الأمريكية تقريباً ليزور مزارع الأبقار و مسالخ اللحوم، و مصانع تعبئة و تغليف تلك اللحوم.حيث يفرد لها صفحات طويلة في فصول ( مسننات في آله كبيرة، العمل الأشد خطورة، ماذا يوجد في اللحم) و تعتقد لوهلة، و هو يصف جولته داخل أحد المسالخ أنك تقرأ وصفاً لأحد أفلام الرعب المعوي، ولا تكاد تصدق أن وجبتك الشهية في القراطيس الملونة تخرج من ذلك المكان المرعب القذر!! لكن ثمة ما قد يهمك بالفعل أن تعرفه... و لعله الفصل الأهم في الكتاب فيما يتعلق بالمستهلك العالمي من أمثالنا..


ماذا يوجد في اللحم؟


إنه السؤال الأكثر أهمية في الكتاب لقارئ لا يُعنى كثيراً بالثقافة الأمريكية أو أثر الشركات السيّئ على الاقتصاد، أو عدم أخلاقيتها في التعامل مع العمال.. ويذكر المؤلف في هذا الجانب أن: - حوالي 75 % من القطعان في الولايات المتحدة كانت تغذى بروتينياً بواسطة فضلات المواشي – بقايا الخراف و القطعان النافقة- حتى عام 1997، كما كانت تُغذى أيضاً بوساطة الكلاب و القطط الميتة المشتراة من ملاجئ الحيوانات، و بعد ثبوت تسببها في مرض جنون البقر مُنعت مثل هذه الممارسات إلا أن القوانين الجديدة لمنظمة الغذاء و الدواء الأمريكية ما زالت تسمح بتحويل الخنازير و الأحصنة و الدواجن الميتة إلى علف للمواشي؛ بل و تسمح تلك القوانين بتغذية الدواجن بالمواشي الميتة أيضاً .... و حتى نفايات مصانع الدواجن بما فيها نشارة الخشب، و الجرائد القديمة التي تُستخدم كمهاد لترقد عليه الدواجن تدخل في غذاء المواشي الآن! - و لزيادة الأمر سوءاً فإن الحيوانات التي تُستخدم لصنع حوالي ربع كمية اللحم في الأمة هي من ماشية الحليب المستهلكة، و هي عرضة لأن تكون مريضة و مفسدة ببقايا المضادات الحيوية التي تجعلها أقل صحة فمثلاً.. تعتمد شركة ماكدونالد على ماشية الحليب بشكل كبير من أجل مستلزمات الهمبرغر لديها فهذه الحيوانات رخيصة نسبياً، و تنتج لحماً قليل الدسم، و تسمح للشركة بالتباهي بأن كل لحم البقر لديها مربى في الولايات المتحدة الأمريكية! - وجدت دراسة أجرتها منظمة (يو أس دي) شملت الأمة بأكملها أن 7.5 % من عينات لحم البقر المطحون أخذت من مصانع معالجة كانت ملوثة بالسلمونيلا و 11,7% بليستيريا موكوجينس و 30% ملوثة بستافيلوكوكس اوريوس و 53,3% ملوثة بكلوستريديوم بريفينجيس، و كل هذه الجراثيم تصيب الناس بالمرض؛ فعلى سبيل المثال تتطلب حاله التسمم باللستيريا عناية طبية في المستشفى، و تسبب الموت في حالة من كل خمس حالات، علاوة على ذلك لقد وجدت الدراسة أيضاً بأن 78.6% من لحم البقر المطحون كانت تحوي مادة برازية... خلف هذه المصطلحات يكمن توضيح بسيط يفسر لماذا يمكن أن يسبب أكل الهمبرغر الإصابة بالمرض!.

تغييب الرقابة..

تعاني إدارات الرقابة الفيدرالية -حسب الكاتب- من تغييب و ضغط متعمدين من قبل الحكومة و تجار صناعة اللحوم، و اللذين تحالفا عليها لفترة طويلة من الزمن لتفريغها من مضمونها و لضمان عدم إعاقة أرباح تلك الشركات " لقد كانت إستراتيجية تعليب اللحوم مدفوعة بكره غريزي عميق لأي قانون حكومي قد يخفض من أرباحها... خفضت إدارتي ريجان و بوش من الإنفاق على إجراءات الصحة العامة وزودت منظمة الزراعة في الولايات المتحدة بموظفين مهتمين بتخفيف القوانين الحكومية أكثر من اهتمامهم بسلامة الأطعمة و هكذا أصبحت إلى حد كبير لا تختلف عن الصناعات التي كانت معنية بتنظيمها"!!


الذي ينبغي أن تفعله


لو أن كاتباً عربياً أو مسلماً قال ما سوف يقوله (ايريك سلوشر) في خاتمة كتابه لاتهم بتهم كثيرة تبدأ في أبسطها بالجهل و الحماقة، و تنتهي بالخيانة و الإرهاب و تدمير اقتصاد البلاد لكن من الأسلم –ربما- أن نورد ما قاله من دون تعليق: "لا يوجد أحد في الولايات المتحدة مجبر على شراء الوجبات السريعة، و الخطوة الأولى باتجاه إحداث تحوّل مهم هي الأبسط على الإطلاق: التوقف عن شرائه.. على رؤوس برغر كينغ و كنتاكي و ماكدونالد أن تشعر بالهلع فأنتم تفوقونهم عدداً هناك ثلاثة منهم و ثلاثمائة مليون منكم.. مقاطعة جيدة و رفض للشراء يمكن أن توصل إلى ما لا توصل إليه الكلمات".

الثلاثاء، 16 سبتمبر 2008

في مجموعته الأولى «المشبك الخشبي»: فراس عالم يمارس لعبة «الاضافة والمحو»



عكاظ - جدة
يقدم الكاتب فراس عبدالعزيز عالم في مجموعته القصصية الجديدة "المشبك الخشبي" عالما قصصيا وافر الحركة وفيه المزيد من الشعور بالقلق الوجودي وتصريح يجبّه التلميح مع مسحة لا يمكن ان نغفلها لتلك الضمائر القلقة التي تحاول قدر جهدها ان تقرأ الواقع فتفهمه ثم تمارس لعبة الاضافة والمحو عن عمد كي تنسق العناصر المشتتة هنا وهناك. المجموعة التي صدرت مؤخرا لدى المؤسسة العربية للدراسات النشر ببيروت هي الأولى للمؤلف الشاب الذي عرفته الساحة المحلية بوصفه قاصا حديثا ينشر ابداعاته وترجماته لمختارات من الابداع العالمي في مختلف المطبوعات المحلية، بالاضافة الى كونه صاحب العديد من الجوائز التقديرية من جامعة الملك عبدالعزيز ونادي مكة الأدبي والمؤسسة العربية بالقاهرة. وفي مقدمة المجموعة يهدي المؤلف كتابه الأول "الى نور سنان.. قبلة صغيرة على ظهر كفها الحنون.. وقبس متواضع من وهج خصلاتها البيض"، وهي تضم 18 نصا قصصيا تتمتع بـ"نسيج محكم يذكرنا بنسيج همنجواي". وحسب الروائي د. أحمد خالد توفيق في كلمته التي تضمنها الغلاف الخلفي للكتاب، فإن هذه المجموعة تتوفر على "جوٍّ عام يحاول ان يقول شيئا لكنه لا يقوله، وتحاول أنت ان تستخلص شيئا لكنك عاجز عن قول هذا حتى تأتي لحظة التنوير.. عندها تفهم كل شيء"!ومن أجواء المجموعة نقطتف الأجواء التالية: ".. فتح دش الحمام، انهمرت المياه على رأسه، شعر بأن الماء المنساب على جسده يتحول الى اللون الأسود، وأن فتحة الصرف تطلق أصواتا صاخبة عندما تغمرها المياه السوداء، صرخات ملايين المعذبين تجتمع في البالوعة، صرخات مجموعة فزعة، مرتاعة الى درجة تعرف ان أحدا لن يسمعها ولن يهم لنجدتها أبدا، وأن عذابها باقٍ ما بقيت صرخاتها.. لكنه كان يسمعها بوضوح..قرب أذنه أكثر من البالوعة وأخذ يُنصت.. يا إلهي ما الذي فعلته..؟".


رابط الخبر


الأربعاء، 3 سبتمبر 2008

فراس عالم.. شعرية وقدرة تقيد نفسها.. وتأثر بأفلام "التيرسو" الغربية

مقال لمحرر وكالة رويترز جورج جحا شن فيه هجوماً عنيفاً على كتابي"المشبك الخشبي"



بيروت (رويترز) - عالم "فراس عبد العزيز عالم" القصصي كما يتجلى في مجموعته الأخيرة "المشبك الخشبي" قد يثير استغرابا في ذهن القارىء.. ففيه شعرية وقوة سرد ووصف واضحة وكثير من "غير العادي".
إلا ان الكاتب يبدو فيه كأنه يقيد نفسه فيربطها بالغريب المحدود ويركز على لحظات يصعب ان تنطلق إلى نطاق إنساني واسع مع انه كثيرا ما يوحي لقارئه بأنه يعد بهذا الإنساني. انه مولع بالتركيز على لحظات محدودة فحسب. وعلى رغم غوص في النفس هناوعمق فكري هناك فهدفه يبدو اقرب إلى الادهاش بل إثارة الاستغراب.
ويعكس هذا العالم ما يبدو اجواء من افلام الغرابة والرعب والدم التي تصل إلى حد ما يصفه البعض بالشذوذ وما يستعير له اخرون -في تلطف غير مقصود- تعبير افلام "التيرسو" الأمريكية خاصة. والتيرسو هنا يختلف عن مفهوم التيرسو المصري القديم اذ انه ياتي بمعنى هبوط يصل إلى درجة ربما اثارت القرف والغثيان بينما تدعي العمق.
عند الكاتب السعودي فراس عبد العزيز عالم كما عند بعض الكتاب العرب الاخرين من سعوديين وغير سعوديين تطل الكلمة الشعرية بل النص الشعري في جزء كبير من نتاجهم في صورة "صاحب الدار" الاصلي.. والقيم الروائية السردية اقرب إلى صورة الضيف وان جاء هذا الضيف في شكل يثير الاعجاب في احايين محدودة.
مع فراس عالم تشعر بأسف أحيانا لأن موهبة تعد بكثير تكتفي بما هو اقل من ذاك بكثير وترضى باثارة الادهاش او غيره مع ان الكاتب يغوص أحيانا في النفس البشرية بعمق. إلا ان غوصه ينصب على رؤية محدودة جدا إلى درجة انه يتلهى به عن التوصل إلى رؤية اكثر اتساعا او ذات شمول من نوع ما.
اشتملت المجموعة على 19 عنوانا في 123 صفحة متوسطة القطع وصدرت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر.
بعد الاهداء يكتب فراس تحت عنوان هو "حيث لا يراني احد". تتوقع ان تقرأ قصة فاذا بك تقرأ شعرا. انه هنا شعر "خالص" إلى حد بعيد وليس سردا شعريا. الكاتب هنا اكثر إنسانية وشمولية منه في كثير من القصص. ولعله في هذه "المقدمة" سجل نظرة إلى الحياة والوجود تتسم بالعمق وبالتعبير الموحي لكنه في القصص لم ينفذ إلى الحياة والوجود بل اكتفى بتناول صور ومشاهد منهما ضيقة محدودة.
يقول "وحدها/ او وحدك/ او وحدكما/ ما الفرق../ اخبرني بالله عليك ما الفرق../ كل الطرق تؤدي إلى لا شيء/ إلى صحراء بلا نهاية/ تقتل الامل في كل طموحاتك بالوصول/ بنشوة الانجاز/ لا شيء/ اعمل او لا تفعل/ اركض..اجر.. هرول.. اصرخ.. او حتى تمدد ونم/ لا فرق..."
إلى ان يقول "... ستبقى مرارتك داخل حلقك/ وربما تزيد انقباضة صدرك/ ويستفحل ارقك/ من الذي اخبرك ان ثمة حياة افضل في الافق../ لا شيء../ صدقني.. لا شيء يمحو وهن الانكسار/
"ترحل/ تحمل الكون على ظهرك/ وتمضي/ غائبا في ضباب الاثم/ ودوي صمتك يرج الافق/ وجفاف دمعك يغرق العالم.../ وتقول انك ذاهب/ حيث لا يراك احد "
في "بياض" نموذج يعطينا صورة واضحة عن اسلوب الكاتب من خلال حديثه عن "حالة كتابة" اي عن معاناة يمر بها. وصف وتصوير نابضان في عصبية وتوتر.. وعين خيال تربط بين حالات وأخرى وبينها وبين اشياء فيتحول النص عنده إلى خلية تعج بنوع من الحياة و الحركة.
يقول "تنفر الاوراق من بين يدي كفرس حرون. اعود وأجمعها على الطاولة الخشبية المتعفنة. تصر هي الاخرى في احتجاج مكتوم.ارتب الاوراق واحدة فوق الاخرى. احاول ان امر عليها بعيني.. تتمطى الاحرف السود في وقاحة. تتلون بالاحمر والاصفر والاخضر. ثم يتمادى الاحمر ليغمر الصفحة كأنه بقعة دم كبيرة. تبتسم الحروف المصبوغة ابتسامة غير مهذبة.. تغمز بعينيها وتمد لسانها في وجهي.."
ولعل من ابرز ما يتسم به اسلوب الكاتب عدم اهتمامه بالشخصيات القصصية فهي عنده ليست شخصيات حية بالفعل تنمو وتتحرك. انها شخصيات "غائبة" وباهتة أحيانا. وجل ما يفعله الكاتب انه "يختزلها" في حدث محدود ليتحول العمل القصصي عنده إلى مشهد بعيد عن اي صفة " بانورامية". ومما يعبر عن ذلك اننا نجده لا يعطيها اسماء عادية بل يرمز اليها بأحرف اي بالحرف الاول من كل اسم. وفي الحرف الواحد -في الغالب باستثناء حالات نادرة- غياب واجتزاء وقناع من نوع "طاقية اخفاء".
في قصة "الخارق" مراوحة بين الوقعي والغرائبي. انتقال من جهاز التلفزيون إلى عالم غرائبي يخلقه ما يعرضه وتفاعلنا الواعي وغير الواعي مع ما يعرض. يتحول "الخارق" من شيء يعرض إلى شيء في الذهن وفي الواقع. ويحول عالم الطفولة هذا الكائن "الخارق" إلى حبيس ينام في تابوت " عندنا". وفي " شارب كث" جدلية بين واقع ووهم يتحول الواقع بعدها إلى مزيج من الاثنين.
في "البحث عن القلق" نجد انفسنا في عالم مصغر ومختصر جدا عن عالم نجيب محفوظ في "الشحاذ". البطل في ع
يادة الطبيب. وكما تحول الثوري السابق إلى حياة الهدوء او إلى "تقاعد ثوري" قسري عند محفوظ نجد الطبيب هنا يقول لمريضه "في الحقيقة انت لا تعاني من مرض عضوي. انت بحاجة إلى التجديد في حياتك.. إلى شيء من الاثارة.. شيء من القلق."
- "ماذا القل.. القلق.."
- "نعم.. القلق.. وستعود إلى حالتك الطبيعية بعد اسبوعين."
"اخذ المريض يهيم في شوارع العاصمة.. من اين يأتي بالقلق... انه يسمع ان العالم يشكو من القلق وأمراضه المزمنة.. لماذا اذن يعاني هو نقص القلق... اخذ يسترجع بعض الحكايات التي تسبب القلق لزملائه.. الزوجة.. الاولاد.. المصروفات.. المشتريات.. الايجار.. الكهرباء.. ابناء الجيران.. البقال.. القصاب.. لا شيء انه لا يعاني من ذلك..."
في "العابرون" عالم تستخدم فيه حالات اقرب إلى "حالات شبحية" لكن قد يشفع بالامر ان الكاتب يفعل ذلك في سعي إلى قول امور " فكرية".
ولعل قصة "رنين" اقرب ما في المجموعة إلى النضج والغور في النفس البشرية بتعاطف ومحبة .انها قصة جيدة تقول الكثير.
اما قصة "عاشقة" فقد تكون اوضح مثل في المجموعة يذكّر بأفلام الرعب ومصاصي الدماء والشذوذ. انها تثير القرف وبشكل "شديد الكلفة" على القارىء. فبعد ان شقت صدر من تحب في عاطفة جياشة وخوفا عليه من موت زاحف واستخرجت قلبه "اخرجت يدها مخضبة بالدم تعتصر كتلة صغيرة في حجم قبضة اليد تهتز في وهن وتنز دما قانيا... قامت وهي تقبل يدها والكتلة الواهنة وتلعق الدم المتقاطر في تلذذ..."
لا شك في ان من الحب ما قتل.. قتل الحبيب والقارىء معا.
من جورج جحا