الخميس، 31 مارس 2011

موسم الهجرة إلى... الشاشة!



لا زلت أتذكر ذلك اليوم جيداً بكل انطباعته العميقة في وجداني..بكل الزلازل الصغيرة و الكبيرة التي أحدثها في قرية أفكاري الصغيرة و التي لم تعد بعدها أبداً كما كانت، و لم يعد العالم كله بعدها لما كان عليه و يبدو ان القادم بحاجة إلى كاتب عبقري من طراز جورج أورويل ليتوقعه..
كنت وقتها طالباً في الجامعة، و أسكن في السكن الطلابي الذي تشمل قائمة الممنوعات فيه كل شيء تقريباً من التلفزون و الفيديو و حتى الاحتفال بصوت صاخب مع أصدقائك. كانت و سيلة الترفيه الوحيدة هي أن يكون عندك سيارة و أن تهيم بها في الشوارع الساكنة أو الصاخبة و أن تجلس قليلاً على شاطيء البحر و أن تعرج على مكتبة جرير في فرعها اليتيم في شارع فلسطين لتتامل ذات الكتب لنجيب محفوظ و محمد عبدالحليم عبدالله و يوسف السباعي و باقي قائمة مكتبة مصر و التي بالفعل قرأت معظمها منذ سنوات، لم يكن في الحياة شيء يكسر الكآبة سوى القليل من الأحداث و الأقل من المناسبات السعيدة..كالفرح بتجاوز امتحان صعب أو الظفر بسفر خارج البلاد في الإجازة الصيفية.
عدا ذلك كانت الرتابة و الهموم تتقاسمان معي مساءات جدة الطويلة و ليلها الذي كان يقبض الأنفاس...حتى جاء ذلك اليوم
كان صديقي الذي يسكن في شقته الخاصة يجلس متوتراً على جهاز الحاسب العتيق و يراجع التمديدات الغريبة الخارجة من الجهاز و المتصلة بالهاتف و يقوم بتشغيل الجهاز و إغلاقه عدة مرات ثم يجري اتصالات أخرى من هاتفه الجوال و يعود بعدها لفحص ذات الاسلاك و مراجعة الكثير من الطلاسم على الشاشة، ثم و بعد دهر ينبعث صوت معدني حاد من مكان ما بين التوصيلات يتبعه صوت تشوش كهربائي ثم يصمت كل شيء.. فجأه وجدته يحدق في الشاشة بتمعن و يضغط بعض الازار ثم يقفز في فرح قفزة جنونية
- لقد فعلتها..فعلتها...نحن الآن متصلون بالإنترنت!
كانت هذه الحادثة صدمة حضارية عنيفة عشتها أنا و الملايين من جيلي الذين عاصرنا التلفزون (أبو أريل) و كان منتهى أملنا مراسلة مجلة ماجد و الفوز بجائزة سن توب!
كانت ليلة عصيبة استمر الخط المتصل بشبكة البحرين بتكلفة اتصال دولي يتقطع باستمرار كل عشر دقائق تقريباً، و استمرينا في المحاولة دون كلل حتى أشرقت الشمس و نحن نحدق مبهورين في الشاشة التي لأول مرة في تاريخها تقوم بتحميل صور و برامج لم يقم أحد بتحميلها عبر سي دي من شارع خالد بن الوليد.
أذكر جيداً دهشتنا العظيمة عندما نجحنا في إجراء محادثة دردشة عبر موقع ياهو مع شخص أمركي في ولاية ما، أعتقد أن شعور أرمسترونج وهو يمشي على القمر لم يكن ليختلف كثيراً!. ثم نقاشنا المحموم حول ماهية البريد الإلكتروني و فخرنا بأول بريد إلكتروني سجلناه و دهشتنا العظيمة من الرسائل السريعة التي تقاطرت عليه، كنت أشعر وقتها أن شيئاً غير عادي سيحدث و سيحدث على مستوىً جلل، سلاح جديد في يد الناس، نافذة سحرية يستطيعون أن يتنفسوا منها هواء الحرية و أذكر أنني كتبت في تلك الفترة مقالاً نشر في جريدة البلاد بعنوان"كوة تسعنا جميعاً...كي نمر" و مما قلته فيه إن قطار التقنية قد ترك لنا شيئاً خاصاً يفتح كوة في جدار عزلتنا...و قد آن الوقت كي نمر منها!
....
....
لكن مالم أتخيله و لا في أقصى شطحات خيالي أن أعاصر و أشاهد سطوة الانترنت وهي تغير وجه الأرض فعلاً، لم أتوقع أن يكون ذلك اليوم بهذا القرب و أن يكون الطوفان بهذا العنف الذي يزيح حكاماً من عروشهم و يرعب آخرين و ينذر بزلازل لا يعلمها إلا الله..من كان يتخيل أن ذلك الصوت المعدني المتحشرج و الاتصال المتقطع هو طريق المارد الخرافي ليرج العروش و يهدم القصور و ينشر الفضائح؟ من كان يتوقع أن تلك النبضات المتقطعة و الرموز الغامضة على الشاشة ستجعل نصف العالم يراقب بشغف نصفه الآخر و هو يهتف في الميادين بإسقاط الحاكم هنا و هناك؟
و هل كان مؤسس موقع التواصل الإجتماعي (فيس بوك) الذي أسسه و هو يشعر بالوحدة لكي يلفت نظر الفتيات في جامعته، هل كان  يتخيل أن يصبح موقعه أخطر منصة سياسية في العالم؟
لقد أثبتت الإنترنت أنها الفأر الذي هدم سد مأرب، و أنه لا الحكومات و لا الشعوب توقعت أن ينجز الفأر مهمته بهذه السرعة والكفاءة!
هناك شيء ما غريب و غير معتاد في كل ما يجري هنا؟ شيء يوشك أن يفتح للعالم كله صفحة جديدة غير مرتقبة و غير متوقعة، شيء يشبه إرهاصات إختراع الطباعة و المحرك البخاري و دوائر السيلكون و حبوب منع الحمل!
أشياء بدت عادية و غير مريبة في أول ظهورها، بل و توقع الكثيرون لها الفشل لكنها كانت ألغاماً مدمرة لنسيج و تكوين المجتمع ككل في صورته التقليدية و عادت لتخلق مجتمعاً جديداً لا يشبه الأول بأي شكل من الأشكال ولا يمكن أن يعود إليه مهما كلف الأمر.
لكن هذا الشيء الغامض الجذاب مختلف، ولا أحد يستطيع التنبؤ بأثره ولا بضربته القادمة، إن أسوأ كوابيس المستبدين قد تحققت فيه فهو ينمو بسرعة و يتطور و يغير شكله(منتديات، ماسينجر، فيس بوك،مدونات،يوتيوب، تويتر) ولا يمكن اختراقه أو السيطرة عليه، و هو يمّكن كل من أراد من أن يكون له منبر و صوت مسموع، ومن المستحيل تقريباً إسكاته!
ترى ما هو القادم؟
و إلى أين نحن ذاهبون؟
مالذي يمكن أن نستيقظ و ننظر إليه من النافذة/الشاشة  بدهشة في المرة القادمة؟
بكل ثقة أقول و بأعلى صوت لا أعلم
لكنني أعلم أن من سيكون مستعداً للتغيير و منفتحاً عليه هو من سيفوز أو ينجو بأقل الخسائر
وللأسف لا يبدو أن أحداً من أصحاب القرار في قومي مستعد لتقبل التغيير، بل إنهم  لازالوا يبنون منازلهم الفاخرة في مجرى السيل القادم!



هناك 4 تعليقات:

  1. أجمل ما قرأت في هذا الانفتاح الحاصل لأنه بالفعل ما حصل لي منذ أعوام
    إلى الأمام يا دكتور فراس وتعجبني كتاباتك

    ردحذف
  2. أعدتني عشر سنوات الى الخلف ..يوم دخول الانترنت الى منزلنا ليلة اختباري ..نسيت الاختبار والمادة وسهرت حتى الفجر مع هذا الاختراع المبهر ..
    تفاصيل جميلة..ونقلة اجمل لتطور تأثير النت على عالمنا ..

    تحياتي ..في انتظار القادم

    ردحذف
  3. شاهدت فيلم افاتار بالتاكيد!..هذا هو ما يحدث الان بالظبط...تلك الطاقه الهائله التي تنتج عن التواصل لتضيف مصدر قوتك - وهو عقلك بخبراته وتجاربه- الي مصدر قوتي لنصبح قوه لا تفل...هذا ما فعله الانترنت!
    هل تذكر صديقي من اسس لي ايميلي الاول واين؟لازلت اذكرها كأنها بالامس

    ردحذف
  4. http://www.almasryalyoum.com/node/378268
    انتظرك هناك
    http://tamermurad.blogspot.com/

    ردحذف