الأحد، 3 يوليو 2011

كنت رئيساً لمصر: عن الثورة التي ضلت الطريق مبكراً!

المؤلف: محمد نجيب
الناشر: المكتب المصري الحديث 1984


كلما قرأت كتاباً عن ثورة الضباط الأحرار أملاً في المعرفة و رفع الحجب، أزدت حيرة و تشتتاً. فكل كتاب أقرأه يصف لي ثورة مختلفة و أشخاصاً مختلفين كأنني أقرأ عن عشرات الثورات و مئات الأحداث لا الثورة ذاتها. فبينما يرفع محمد حسنين هيكل الثورة إلى عنان السماء و يمجد عبدالناصر حتى يكاد يجعله نبي العصر المرسل متسلحاً بكومة لا تنتهي من الوثائق و الملفات، تجد آخرين يكيلون أقسى التهم لعبدالناصر و أيام الثورة التي يصفونها بالسوداء كمصطفى محمود في معظم كتابته عن عبدالناصر، و يقف آخرون منها موقفاً حيادياً يحلل سلبياتها و إيجابياتها بأسلوب علمي منطقي مثل جلال أمين الذي يقسم الثورة إلى مراحل و يفصل في التغييرات الاجتماعية و السياسية التي أحدثتها في المجتمع. لكن هناك قلة من الكتب النادرة التي تتحدث عن وقائع و أحداث و مشاهدات يومية، هذة الكتب لا تعنى بالتفسير و التبرير و تنقل صورة حية و صادقة لما كان يحدث دون أن تهتم بالتوصيف بكيف و لماذا. أحد هذة الكتب هو هذا الكتاب و الذي يسجل فيه أول رئيس للجمهورية المصرية الحديثة مذكراته بعد عقود ثلاثة قضاها داخل المعتقل. و يسرد وقائع يومية لأحداث ساخنة صاحبت فترة الثورة و فترة حكمه القصيرة التي تلتها و التي لم تتجاوز العامين قبل أن تتم إزاحته عن سدة السلطة لصالح جمال عبدالناصر.


يحكي محمد نجيب بمرارة ظاهرة في كل حروفه قصة الثورة التي كانت مجرد انقلاب عسكري لتصحيح الفساد داخل الجيش ثم تطورت لتصبح حركة ثم تجرأت لتسمي نفسها ثورة بعد التفاعل الشعبي الذي نالته في بداية أيامها. و ينسب محمد نجيب تلك الشعبية لضيق الناس من فساد الملك فاروق و لمرارة الهزيمة في حرب فلسطين ١٩٤٨ و احتلالها من قبل الصهاينة لا لشعبية الضباط الذين لم يكن يعرفهم أحد في ذلك الوقت.

و يفصل الأيام الأولى للثورة و الحيرة و الارتباك التي صاحبتها و الفراغ الدستوري و الدستور المؤقت ثم إسقاط الملكية و إعلان الجمهورية و كيف بدأت الثورة تحيد عن مسارها بتسرب العسكر إلى سدة الحكم بدلاً من العودة إلى ثكناتهم و تسلطهم على الحريات و الحياة السياسية في البلاد و إلغاء الأحزاب و تأسيس المخابرات ثم تحول أنياب تلك الثورة تجاه أبنائها فشرعت في التهامهم واحداً بعد الآخر فمزقتهم بين قتيل و سجين و شريد و لم يبق على سدة الحكم إلا ديكتاتور واحد خلف حكماً تسلطياً مركزياً بلا مؤسسات هو جمال عبدالناصر.

يكيل الكتاب الكثير من التهم لمجلس الثورة و لجمال عبدالناصر شخصياً و الذي لا يراه سوى ديكتاتور تسلطي يجيد لعبة الحيل السياسية و المؤامرات الخفية. و تتراوح هذه التهم بين الفساد الشخصي و الانحراف السياسي و بغض النظر عن التهم الشخصية الصغيرة التي يصعب التحقق منها، فقد أفرد الكتاب صفحات كثيرة لنقد موقف عبدالناصر من السودان و تفريطه في الوحدة معه بسبب جهله هو وصلاح سالم بالخلفية التاريخية و الاجتماعية للشعب السوداني و الاحزاب السودانية التي كان معظمها مؤيداً للوحدة مع مصر. و يصف في تفاصيل كثيرة الخطوات التي قام بها نجيب قبل عزله لتحرير السودان من الاحتلال البريطاني و التمهيد لوحدته مع مصر و الفشل الذي حل بتلك الوحدة بعد عزله و توجس السودانيين من الضباط الذين يعتقلون رئيسهم بسبب خلاف على السلطة و إصرار السودانيين على عودة نجيب إلى سدة الحكم بسبب ارتباطهم العاطفي و السياسي به و هو الذي لم يسمح به عبدالناصر و أدى إلى فشل الوحدة و تحول السودان مع الوقت من حليف إلى عدو.

الانتقاد التفصيلي الآخر الذي يعرضه الكتاب هو اتفاقية الجلاء التي وقعها عبدالناصر مع الانجليز بعد فترة وجيزة من عزل محمد نجيب و يسرد المؤلف تفاصيل الاجتماعات الطويلة له مع الانجليز و رفضه للكثير من الشروط المجحفة في الاتفاقية و التي رأى أنها تهدد السيادة المصرية على أراضيها و فوجئ فيما بعد بعدالناصر يقبل بها بكل ترحاب بل بما هو أسوأ منها، و يرى نجيب أن توقيع عبدالناصر على الاتفاقية هو ثمن موافقة الانجليز على بقائه في الحكم بعد إزاحة نجيب!

وسواء اتفق البعض أو اختلف مع رأي محد نجيب في رجال الثورة و قراراتهم التي ربما يراها البعض مبررة بالنسبة للظروف التي واجهوها فإن ما لا يحتمل التبرير على أي وجه هو الطريقة اللا إنسانية التي عامل بها رجال الثورة زميلهم ورئيس الجمهورية و قائد الثورة بعد تتحيته عن سدة الحكم.

ففي سطور مثقلة بالمرارة و الأسى يصف اللواء محمد نجيب رئيس الجمهورية تفاصيل اعتقاله من قصر عابدين(مقر الرئاسة) و نقله إلى فيلا عارية من الأثاث صادرتها حكومة الثورة من أحد السياسيين في ضواحي القاهرة ليقيم فيها معتقلاً تحت حراسة مشددة و وسط رقابة لصيقة و إهانات مستمرة من الحراس امتدت لثلاثة عقود و لم تتوقف الإهانات عند شخصه بل لحقت أبناءه الثلاثة الذين دخل أكبرهم المعتقل و مات بعد خروجه منه بأشهر و أغتيل الثاني في ظروف غامضة أثناء دراسته بألمانيا و أقصي الأصغر من وظيفته بقرار رياسي و انتقل للعمل سائق أجرة و ربما هو أول نجل رئيس جمهورية يشتغل بهذه الوظيفة

و لعل أكثر أيام الاعتقال مرارة هي أيام حرب ١٩٥٦ عندما دخلت الجيوش البريطانية و الإسرائلية لمصر لاحتلال قناة السويس و الذعر الذي أصاب الثوار وقتها و دفعهم لنقل محمد نجيب من معتقله و إخفائه لمدة شهرين في منفى آخر في أقاصي الريف لمدة شهرين في غرفة رطبة مظلمة خوفاً من أن يثور الشعب على الهزيمة المتوقعة حينها و يطالب بتحريره و عودته إلى سدة الرياسة

يحكي محمد نجيب موقفاً أثر فيه كثيراً في المعتقل عندما عاد ولده من المدرسة ليسأله (هل صحيح يا أبي أنك كنت رئيساً للجمهورية؟)

و يجيبه الأب بنعم، فيخرج الإبن كتابه المدرسي ليريه ما كتب فيه

( الرئيس جمال عبدالناصر هو أول رئيس للجمهورية) فدمعت عينا الرجل و قال يا ولدي هذه إرادة الحكومة لا إرادة الشعب.

ترى مالذي كان سيحمله المستقبل لمصر لو لم تتم تنحية نحمد نجيب عن الحكم؟

وهل زرعت الثورة بذور نهايتها منذ ذلك الوقت المبكر بالأخطاء الفادحة التي ارتكبتها؟

هل كانت أسباب ثورة ٢٥ يناير كامنة منذ مدة أبعد كثيراً مما تخيلنا؟

هناك تعليقان (2):

  1. lما شاء الله يا دكتور
    قراءة شاملة وجميلة في الكتاب ... شدتني لقراءته بإذن الله
    شكرا لك

    ردحذف
  2. اقوى العروض تجدها فى النهدى للعناية الصحية
    تجد معنا اقوى عروض الخصومات على منتجاتنا بمناسبه عروض الصيف فى اول موقع عربى سعودى بالمملكة العربية السعودية يضم جميع المستلزمات الطبية للاسرة والطفل ويوجد به اول صيدلية اون لاين توفر لك جميع المنتجات وطريقة الدفع سهله جدا وامنة يوجد لدينا احدث العروض لطعام الاطفال ، ومستحضرات التجميل الخاصة بالعناية بالبشرة والشعر وجميع المنتجات التى تخص افراد الاسرة يوجد ايضا جميع المنتجات والادويه الطبية تتوفر فى صيدلية اون لاين ، ومستلزمات الاطفال, المعدات الطبية, الوعى الصحى, نصائح تجميلية, النمو والتغذية, السلوك النفسى للطفل, الأمراض الأكثر شيوعا
    كل ذلك تجدوة فى النهدى للعناية الصحية
    النهدى للعناية الصحية
    http://www.nahdicare.com/

    ردحذف