الجمعة، 21 أكتوبر 2011

لماذا أفعل ذلك يا جدتي؟

لا أذكر كم كان عمري وقتها بالتحديد، بإمكاني أن أخمن لكنني لست متحمساً لأفعل، رغم أنني أتذكر عمر أخي الأصغر بوضوح، كان ضئيل الحجم و قصيراً لا يتجاوز الثامنة من العمر.. أو ربما السابعة. كان الليل يوشك على الانتصاف ومنزل جدتي مضاء بالكامل، كل حجرات الدار مفتوحة تغص بالزائرين و بعض من فاضت بهم الدار افترشوا الارض المقابلة للمنزل وجلسوا في سكون. كان من الممكن للمنظر أن يبعث البهجة في نفوسنا كأطفال، فوجودنا في بيت جدتي وحده كفيل بخيالات كثيرة عن المرح القادم و الحلوى المخبأة في دولاب المطبخ و النقود المطوية بحرص في حقيبتها و التي تكتسي برائحة الفوفل و اللبان والتي تفوح عندما نتشممها في سعادة.
كل شيء كان من الممكن أن يوحي بالبهجة مع الجموع الكثيرة التي ملأت البيت و الوجوه الودودة التي تبتسم في وجهنا و تربت على رؤسنا و تمنحنا بعضاً من المال أيضاً. لكنها اليوم لا تفعل!
إنهم يربتون على رأسي ورأس أخي اليوم بحنان أكبر لكن بوجوه متجهمة خالية من الابتسامة يتمتمون بكلام مبهم عن الله الذي سيتولانا ثم يشيحون بوجوههم.
أنا أعرف ما يعنون و أعتقد أن أخي يفهم قصدهم كذلك، إنهم يعنون أبي الراقد في حجرة الضيوف منذ العصر. لقد جاؤوا به من المستشفى و مددوه هناك.. عندما دخلت لرؤيته وسط نحيبهم وجدته نائماً في سكينة، عيناه مغمضتان في استسلام، و ملامحه تعطي انطباعاً بالراحة كأنه يقضي قيلولته بعد عودته من عمل شاق، قبلت جبهته فأحسست ببرودة جسده واستغربت من القطن و الشاش الذي لف حول رأسه.
كنت كثيراً ما أتباهى أمام أخي بأنني الكبير و بأنني أفهم أمور الكبار أكثر منه.. لكنني بدوت في تلك اللحظة عاجزاً عن الفهم.. كان الحدث أكبر بكثير من أن أستوعبه بمشاعري كان عليه أن يتكرر بعد ذلك في وجداني ملايين المرات لأستوعب فداحته، لذلك لم تستجب مدامعي بشكل كاف للمفاجأة. صحيح أنني بكيت كثيراً عند رأس أبي النائم، و أن شخصاً ما ناولني مصحفاً وطلب مني قراءة القرآن عليه بدلاً من البكاء.. أذكر أنني ظللت أقرأ وسط دموعي و دموع الآخرين من حولي لكن عقلي لا زال ينكر ماحدث، لا بد أن تأتي ساعة و ينفض السامر و نعود إلى منزلنا البعيد، لقد اشتقت لحجرتي و سريري اشتقت لدراجتي و كرتي. لابد ان يتنتهي هذه الفوضى بطريقة ما و نعود إلى منزلنا.
سحبتني يد مشفقة إلى خارج الحجرة و وجدت نفسي في الشارع مع أخي و عدد من الصبية من أبناء الأقارب و الجيران الكل ساهر رغم تأخر الوقت انتظاراً للذهاب إلى الحرم لأداء الصلاة و الدفن.
سرعان ما تجمع حولنا الصبية يبدون تأثرهم و تعاطفهم كان بعضهم يحدق في الأرض و يتمتم "الله يرحمة"
الباقون اكتفوا بالنظرات الشاردة. ولأننا أطفال لم نستطع الاحتفاظ بجو الحزن طويلاً، فسرعان ما ابتعدنا عن أنظار الرجال المتجمهرين في الشارع و أخذنا في اللعب.. بدأنا نركل علبه مشروبات غازية باستحياء ثم دبت فينا الحماسة فأخذنا نركض خلفها في خطوات أوسع ثم بدأت أصواتنا تعلو شيئاً فشيئاً حتى اندمجنا تماماً في المباراة. كانت مباراة غريبة بعض الشيء فأنا لا أشعر بالحزن بقدر ما أشعر بعوارض خطر ما قادم، خطر عاتٍ و مدمر لكنني عاجز عن تفاديه كنت أشعر أنني أطارد العلبة البرتقالية وسط الشارع و شاحنة كبيرة قادمة من بعيد توشك أن تدهسني، لكنني لا أفكر في الابتعاد و أصر بحماسة غريبة على مطاردة العلبة، أعرف أنني سأموت و سأتفتت إلى قطع صغيرة و ربما سأمر بألم بشع لا يطاق لكنني عاجز عن الابتعاد، عاجز عن إيقاف المطاردة بل ربما و بشكل غامض تمنيت أن تكون هناك شاحنة حقيقية و أن تدهسني بالفعل ربما كنت سأتخلص من ذلك الثقل الذي أحاط بي.
بعد جولة قصيرة من الركض كنا على أعتاب المتجر العملاق الذي لا يغلق أبوابه أبداً و كانت زيارته في الأيام الخوالي إحدى المتع التي نجنيها من زيارة جدتي كان منظر بوابته الفخمة المضيئة و الرفوف الممتدة بلا نهاية إلى الداخل و البضائع الزاهية الألوان فوقها كل ذلك كان انتهاكاً صارخاً لحزني الوليد.. قدم عملاقة تدهس الرضيع الصغير بلا رحمة و لا أحد يلحظ صرخاته المكتومة. استغرق الامر لحظات قصيرة لكنها موجعة حتى صمت الحزن الوليد و قبضت يد خفية عملاقة على معصمي و قادتني إلى الداخل.
في الداخل كان كل شيء يستفز الألم مجدداً الثلاجة الكبيرة بالمشروبات الباردة التي تستعرض اسقامة قوامها في فخر. الثلاجة الأرضية و أقماع الايسكريم المتلاصقة ..الرفوف الحمراء و الخضراء و الزرقاء و أطنان الحلويات بقراطيسها الزاهية. كانت تلك المباهج أكبر من احتمالي حتى لو لم استوعبها بشكل واضح..تراجعت عن ذلك العرض المبتذل و سبقت البقية الى باب الخروج قابلت أخي الأصغر وهو يهم بدفع ثمن حلوى حامضة يحبها كثيراً التقت عينانا بنظرة محملة بالإثم..تمتم بصوت منكسر "بابا مات" هززت رأسي موافقاً و أشرت له بيدي كي يتم الشراء مددت يدي الى الحامل القريب و التقطت النسخة المصرية من مجلة ميكي. لست أدري حتى اليوم لم فعلت ما فعلت ترى أكانت رغبة في مشاركة أخي ذلك الشعور بالإثم بشكل عملي؟ أم تصرفاً لا شعورياً للهروب من الواقع.
.........
.........
كانت ليلة طويلة تلك أطول كثيراً من قدرتنا على السهر.. لذلك كانت افكارنا مشوشة عندما أيقظونا على عجل للذهاب .. تولت خالتي مساعدتي على تغيير ملابسي و ارتداء الثوب الأبيض، كنت أحتفظ بالمجلة مطوية بين ثيابي لذلك اعرضت عنها و القيت المجلة خلف دولاب قريب بسرعة على أمل أن لا تلاحظني ربما لاحظت ذلك لكنها لم تعلق و عندما فرغت مني و التفتت الى أخي لتنزع ملابسه وجدته يدس في كفي خلسة قرطاس الحلوى و يسحب يده سريعاً قبل أن تلاحظ خالتي.
.....
.......
مابقي من الرحلة ظل حتى اليوم فوق قدرتي على الاستيعاب استعيده في كل يوم عشرات المرات وكأنه حزن طازج لا يندمل، يتوارى قليلاً خلف حدث صغير عابر و يوهمني بالنسيان لكنه يعود ليتفجر فجأة كمئات البراكين الثائرة في قلب جبل جليدي.. كل دقيقة من المشهد تعاد بكامل تفاصلها من مختلف الزوايا كأنها عملية مونتاج لفلم صوره مخرج بارع لا يرغب في فقد أي من لقطاته .. الظلام الذي غمر الشارع و الجثمان الذي يركب الاسعاف و الصوت الحاد الذي يهتف وحدوووووووه والهمهات الخافته بـ لا إله إلا الله.. صراخ النسوة و نحيبهم و إطلالة جدتي من خلف الباب تراقبنا و نحن نبتعد بالجثمان. الشيخ بن حميد و هو يصلي على أبي و شعوري نحوه بالامتنان لأنه أطال الصلاة خصوصاً بعد التكبيرة الثالثة. الركض نحو المقبرة والنعش الذي يحمل أبي يمضي سريعاً و أنفاسي الصغيرة تتهدج عاجزة عن اللحاق بالناس أرجوك يا أبي لا تسرع و انتظرني قليلاً كما كنت تفعل دائماً. اختراق السوق المسقوف و مبنى البريد و حلويات ابو نار كل تلك المشاهد كانت تطبع في شريط ذكرياتي للمرة الأولى لتبقى إلى الأبد .. القبر المفتوح و العامل الاسيوي الذي يرتدي الإزار و يقف مفرجا بين ساقيه على حافتي القبر..الزحام الشديد و أحدهم يسأل عن البرسيم و الورد..النعش يقترب من الفتحة و يد حنونة تجذبني بعيداً إلى ما خلف الحشود لكنني أسمع الحوار الكئيب عن إنزال الجثمان و توجيهه نحو القبلة و وحدووووه هادئة و أقل حدة هذه المرة... قبلات و دموع وشمس بدأت ترسل شيئاً من تعاطفها للصبي الغافل..كان المشهد كله أشبه بجرعة من السم البطيء ..البطيء جداً و الذي يتغلغل في الخلايا خلية خلية حتى ينشر الألم .. ولا زال يفعل ذلك كل يوم و على مدى السنوات.. تقول جدتي بأننا قد كبرنا و أصبحنا رجالاً و تجاوزنا سن اليتم.. تقول بأننا نشأنا أفضل من كثير من الأولاد الذين لم يفقدوا آباءهم..لكن جدتي لا تخبرني لماذا رغم الشيب الذي احتل رأسي أشعر بالخوف من المشي في شارع غزة و لماذا أشعر انني طفل صغير تائه كلما دخلت باب المعلاه ولا تخبرني لماذا امتنع أخي عن تناول الحلوى الحامضة التي يحبها منذ ذلك اليوم .. ولا لماذا أشعر برغبة حارقة في البكاء كلما شاهدت النسخة المصرية من مجلة ميكي معروضة في أي مكان....ترى لماذا أفعل ذلك يا جدتي؟

هناك 3 تعليقات:

  1. رائعه ...بكيت عند قراءتها و لا اعلم لماذا؟ ربما لأني اكره لحظات الموت و ابكي على اي شخص ميت حتى لو كان لا يمت لي بصله ..أبدعت في تصوير اللحظات التي مررت بها .. رحم الله الوالد و اسكنه فسيح جناته

    ردحذف
  2. اعتقد ان سبب مافيه هذا الرجل الان انه لازال حبيس تلك اللحظات فجاه وجد والده امامه وهوبعد صبي فجاة كل شي تغير من امامه فجاة اصوات وبكاْء وخلق كثير واجوا ءْ حزن لم يألفه هو تعود على الفرح في هذا المكان فكانت الصدمه التي لم يخرج منها إلى الان والده الذي يحب ودوما معه يراه لا حول له ولا قوه في مشهد غير عادي لصبي مثله فقط يتامل ولا يستوعب وكل شي في نفسه يدور ولا احد يسمع وللاسف انه لم يجد من حوله من ينتشله من هذا فهو صبي فلما نتحدث معه عن الموتز غدا سينسى لم يعلموا ان الاطفال ابدا لاينسون امرا لم يعوه جيدا يبقى في الذاكره اما خيرا او شرا يمكن لووجد من ياخذ بيده ويجلس معه ويحكي له كل ماحدث كانت امورا كثيره تغيرت في نفس هذا الصبي لكن شد من يديه ليقرا القران على والده ليشاهده امامه هكذا لو كانوا استوعبوا وهم اصغر هولاء معنى الموت وهيبته والشرخ الذي يحدثه في النفس ان لم تعالج ما كانوا وضعوه في هذا الموقف لكنه قدره عليه أن يتجاوز تلك المشاعر الحبيسه ويعود لنفس المكان ويتواجه معه وماكان في نفسه منذ ذاك الوقت عليه ان يخرجه كلية لاجله كي يترك تلك اللقطات التي توثر به والتي انتزعت الى ذاكرته من ذاك المكان الان عليه ان يعيد الى ذاك المكان كل مااخذ ه معه في ذاكرته منها وعليه ان يبكي مجدد موت والده بطريقه تظهر تخلصه من كل ماكان من تلك الاثار .عليه ان يواجه نفسه ويتصالح مع الموت الذي اخذ منه عزيز فلازمه الخوف من هذا الامر خشيه الفقد وخشيه التجربه انا في حياتي وانا صغيره كنت اخشى سيره الموت واضع في اذناي اصبعي كي لا اسمع لان الموت كان يعني لي فقد شخص وهذا كان يرعبني كم سهرت ليالي بعد وفاة شخص افكر في اهلي من سافقد وانتظر الصبح لاتاكد انهم احياء واطمان في الصباح لان الليل كان المخيف كان المخيف وهو مرتبط بالخوف اكثر الى ان حدث وفاة ابنه اخي الصغيره اتى الينا اخي بعد دفنها في الطايف فخرجت من غرفتي مسرعه اليه وارتميت في احضانه باكيه فما كان منه الا ان قال لي وهو يربت علي كلمتين فقط استهدي بالله استهدي بالله فقط وتركني معلقه في احضانه حتى هدات ورايته كم هو هادي بدات رحلتي مع مواجهة الموت ولما الموت حتى استسلمت لفكرته وان لن يفر مني ولوفررت منه وكانت هناك مشكلة اخرى لما نموت؟ وهذه اخذت وقت اطول لاستوعبها وكانت الاجابه ان الموت ما هو الاحياة اخرى جمالها بعملي ساناله لذا الموت ليس فقد بالمعنى الكامل للكلمه هو حياه تجعلني احسن كل حياتي حتى لا افقد احد هناك ويكونوا معي وكان الايمان شرطا للوصول لهذا الاطمينان فهو والموت متلازمان طرديا زاد كان الموت شكر وحمدلله وراحه في النفس وان كان لابد من حزن فهذا فراق احبه لكنه من الله فكيف نفعل نستسلم لقدر الله لانه خير هذا ماصنعه الايمان وان نقص تحولت الحياةجحيما وكرها للموت خوفا من كل شي ولكل شي لذا عندما توفي اخي صاحب القصه كنت الاكثر هدوءامام الحدث وكنت الاقدر على تبليغ امي ان ابنها مات وكنت الاقدر على مسح الالام اخوني في فجيعتهم كنت جاهزه لهذه المهمه هاديه رغم الحزن الذي يعتصرني لكن الله يثبتني كان معي وسط الناس وسط البكاء كنت اراهم واقول الحمدلله الحمدلله في نفسي فازداد قوه وعندما اختلي بنفسي اذرف دموعا ساخنه تريحني فقط ولا تزعجني من الموت الا اني اكون بعد ماقلت شيئا لاخي او كنت قصرت في حقه في امر ا وما اعتذرت وهذا احد فواجع الموت وليس الموت نفسه ان تخسر قبل ان تخسره هذا الذي تحبه. وزادت بعدها علاقتي بالله عرفته كثيره في هذه اللحظه وتعاملات مع الموت اخيرا الان انا اتحدث مع اهلي عن الموت بشكلا واضحا. ايهاالرجل عليك ان تخرج كل مخاوفك التي خزنت وزرعت من تلك اللحظه في عقلك الباطن الى السطح سينتهي كل شي باذن الله ) ؟ عموما من كتب هذه القصه شخص لديه هم ولد يه حس ولديه قلب كبير جدا لكنه مليى جدا بامور كثيره احببته متعاطفه معه جدا من يكتب هكذا لديه قلب كبير جدا

    ردحذف
  3. ظافر الجبيري27 أكتوبر 2011 في 12:44 ص

     
    أخي فراس

    دخلت عبر نصك المكتوب بعناية واحتراف إلى الكثير من التفاصيل ...

    الخطي مشياً إلى الصلاة والدفن .مشاعر طفولية، غموض يتلبس البطل حول أثر الموت على المحيط ، أزقة مكة العامرة والأفدح وقعاً أسئلة لا زالت تحتفظ بطزاجة البراءة الأولى رغم مرور السنين..

    تحياتي على نص

    ردحذف