السبت، 14 يناير 2012

على باب الوزير

التجمهر الذي قام به خريجو المعاهد الصحية أمام مبنى وزارة الصحة بعد مناشدات ومطالبات وأوامر ملكية لم تنفذ حتى الآن، ينبغي ألا ينظر إليه كمشكلة تقليدية بين وزارة ومواطنين، فهو وإن دل على تقاعس إداري من قبل الوزارة في احتواء وتوظيف هؤلاء الخريجين إلا أن جذر المشكلة يكمن في منطقة أعمق بكثير من النقطة التي نراها، وأي حل يكتفي بتهدئة غضب المعتصمين وتوظيفهم بشكل طارئ ما هو إلا ترحيل للمشكلة لأعوام مقبلة سيتراكم فيها خريجون جدد وتعود الدائرة المفرغة للانغلاق مجدداً.


إذن أين يكمن الخلل؟ يمكن تشخيص الخلل بطريقة أسهل لو عقدنا مقارنة مع قطاع حيوي آخر مر بذات مراحل المشكلة حتى استفحلت وهو قطاع التعليم. فكل من قطاعي التعليم والصحة يتشابهان في كثير من المعطيات.

أولها أن كلا القطاعين من القطاعات الحيوية التي لا يمكن للمجتمع أن يتنازل عن خدماتهما كماً أو كيفاً.

كما أن كوادر القطاعين تحتاج تدريباً وتأهيلاً متخصصين يضيقان على من يحصل عليهما فرص العمل في قطاعات أخرى، ويجعل مصيره العملي مرتبطاً بذات القطاع شاء أو أبى.

كذلك مما يجمع بين القطاعين ترهل الكادر الحكومي الذي يقدم الخدمة للمواطنين وعجزه عن القيام بدوره في تقديم خدمة مرضية للمواطن كماً وكيفاً. فالشكاوى من أداء القطاعين تكاد تكون متطابقة من حيث التكدس وقلة المقاعد/ الأسرة وتدني مستوى الخدمة ومستوى تأهيل الكوادرالتي تقدمها.

وثنائية الحاجة والعجز هذه وضعت القطاعين في موقف فريد من نوعه فهما من ناحية عاجزان عن استيعاب الكوادر الطالبة للعمل في القطاع الحكومي، نتيجة محدودية وبيروقراطية سياسة التوظيف في القطاعات الحكومية وفي ذات الوقت تعترف كلتا الوزارتين بالفجوة الهائلة بين الخدمات المتوفرة والزيادة المتسارعة في عدد السكان وتسابقان الزمن بإنشاء المزيد من المشروعات التوسعية لزيادة عدد المنشآت لسد تلك الفجوة، وكأن كتل الأسمنت تلك لا تحتاج مزيداً من الموظفين!

المخرج الذي أنقذ القطاعين ولو بشكل محدود من حرج قصور الخدمة وعدم تناسبها مع الكتلة البشرية هو وجود قطاع خاص قديم النشأة يشارك في تقديم الخدمة بهامش ربح جذاب ساعد على توسعه أكثر وأكثر لاستيعاب الطلب المتزايد الذي قصرت عنه المنشأة الحكومية، لأجل ذلك ظلت علاقة الوزارتين بالقطاع الخاص علاقة امتنان وتقدير للدور الذي يقوم به في تخفيف حرج التقصير عنها. فتم رد الجميل بغض الطرف عن التدخل في شؤونه وتُرك القطاع الخاص يدير نفسه بآليات أقرب لآليات السوق التجارية (البحث عن أكبر هامش ربح بأقل قدر من النفقات)، وبالتالي تولدت أعراف وتقاليد خاصة بسوق التطبيب والتعليم الأهلي أشبه بالقوانين التي لا يمكن اختراقها وجعلتها بيئة طاردة لطالب العمل السعودي، رغم الاحتياج المتزايد لحاملي تلك المؤهلات لكن عُرف الراتب المتدني وساعات العمل الطويلة وتفضيل كوادر من جنسيات محددة في تلك المهن، نتيجة إدارة تلك المنشآت الخاصة من قبل أصحاب تلك الجنسيات لعقود طويلة قبل توفر الكوادر الوطنية. كل تلك العوامل مجتمعة ولدت ذلك التباين الحاد والغريب بين القطاعين الحكومي والخاص، وجعل وزارتي الصحة والتعليم في موقف سريالي لا تحسدان عليه، حيث تدفعان الآن ثمناً فادحاً لأخطاء كثيرة متراكمة منذ عقود، فالدولة بسبب عيوب نظام الخدمة المدنية الجوهرية لن تستطيع التوسع في التوظيف إلى ما لا نهاية، وفي نفس الوقت ليس من المنطقي أن تترك الحبل على الغارب في الضفة الأخرى للقطاع الخاص، الذي أصبح بيئة مختلة تطرد المواطن وتستجدي الأجنبي من كل أصقاع الدنيا لأسباب لا تتعلق أبداً بالكفاءة أو التأهيل.

ولا يمكننا أن نلوم القطاع الخاص ونتهم مستثمريه بالجشع وغياب الحس الوطني ونكتفي بذلك، فالمسؤولية الأكبر تقع على عاتق القوانين التي أنتجت هذا الوضع وسياسات التخطيط التي اتبعتها تلك القطاعات بدون رؤية واقعية متكاملة، أفرزت في النهاية تلك التشوهات المزعجة.

وتراكم احتجاجات الشباب الغاضب الباحث عن عمل ليست سوى مؤشر بسيط على مقياس السخط الشعبي تجاه القطاعين وخدماتهما، والتي للأسف لا يبدو حتى الآن أن مسؤولي الوزارتين يعون عمق الخلل فيهما فضلاً عن السعي لاجتثاثه.

في الأسبوع المقبل نتناول أفكاراً من الممكن أن تكون مفيدة لوزارة الصحة في الخروج من هذا المأزق.


 صحيفة الشرق المطبوعة  بتاريخ (١٤-٠١-٢٠١٢)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق