الاثنين، 28 مايو 2012

ماركة(٢)

كان الناس في زمن الرومان يرتدون زياً فضفاضاً أشبه بالثوب الذي يرتديه الرجال في بلادنا هذه الأيام يدعى التونكا، والتونكا رداءٌ قصير الأكمام يُرتدى فوق الملابس الداخلية.
لكن الغريب في ذلك الزي أن طوله كان يتراوح بين القصير الذي يعلو الركبة والطويل الذي يبلغ الكاحل والبين بين الذي يبلغ منتصف الساق، ولم يكن تحديد طول الرداء عملية اختيارية تخضع للذوق الشخصي لصاحبه بل تحكمها عملية تفرقة طبقية صارمة، فالعبيد لا يسمح لهم إلا برداء قصير فوق الركبة والعمال والموظفون يرتدون رداء أطول قليلاً لما دون الركبة أما الوجهاء والسادة فلهم حرية إطالة الرداء حتى الكاحل ولهم أن يجعلوه طويل الأكمام وأن يزينوه بالحلي وأن يطرزوه بالخيوط الملونة.
بمعنى آخر كانت الملابس وسيلة تفرقة تميز بين طبقات المجتمع بشكل حاد وقاطع ولا تسمح بالتشابه والتداخل بين طبقات السادة والعمال والعبيد.
ذلك الوضع لم يكن حكراً على الرومان وحدهم ولكنه امتد عبر التاريخ في حضارات كثيرة وظلت الأزياء إحدى أهم وسائل التمييز في أي مجتمع يفرق بين الأسياد والعبيد.
حتى في العصر العثماني لم يكن يسمح للعبيد في السودان على سبيل المثال بارتداء القمصان إلا في وقت البرد والمطر وكانوا يكتفون بإزار قطني عندما يمشون في الأسواق تمييزاً لهم عن أسيادهم.
لكن ما علاقة كل ذلك بموضوعنا؟ ما علاقة أزياء القرون الماضية بالعلامات التجارية البراقة لعالم اليوم؟ وهل لذلك علاقة بما تحاول العلامة التجارية أن تغرسه فيك من القيم؟. ما رأيك في أن تقوم بتجربة ذهنية صغيرة؟ حاول أن تسترجع اسم علامتك التجارية المفضلة في خيالك الآن، واسأل نفسك ما أول خاطرة تتبادر إلى ذهنك عن تلك الماركة وتجعلك متعلقاً بها؟ هل هي الجودة؟ المتانة؟ السعر؟ أم شيء آخر؟ في الغالب لو كنت صادقاً مع نفسك ستقول إنها تمنحك (التميز).
والتميز هو تلك الكلمة الفضفاضة التي تحاول الشركات العملاقة أن تشحن ذهنك بها عندما تسوق لك منتجاتها من تلك الماركات، فقط لاحظ الإعلانات ودقق في المصطلحات التي تتكرر خلالها ستجدها كلها تدور حول امتداح ذكائك وشخصيتك ووسامتك وغموضك وفتنتك للجنس الآخر و(تميزك) ثم تربط تلك الصفات الرائعة فيك باسم منتجها، مما يعطيك انطباعاً داخلياً بأنك ستصبح من النخبة المتميزة بمجرد اقتنائك لمنتجات الشركة لاحظ كذلك أن لا شيء من تلك الإعلانات تقريباً يتحدث عن الجودة أو المتانة أو العمر الطويل للسلعة، فالسلعة هنا لا تسوق لتلك الصفات لأنهم يعرفون أنها لا تستحق سعرها المرتفع بسبب الجودة بل بسبب رمزيتها التي تجعلك من النخبة.
لنعد الآن إلى القرن الماضي قليلاً لقد تم إلغاء الرق والتفرقة العنصرية في الغرب ولم تعد القوانين تسمح بذلك التمييز الطبقي الفج والمباشر بين السادة والعبيد، لكن الشركات العملاقة عرفت كيف تدغدغ مشاعر تلك الرغبة الدفينة في التمايز بين البشر فمنحتهم باباً خلفياً يستطيع أفراد من المجتمع أن يعودوا ليدعوا التميز عن باقي طبقاته عبر باب العلامة التجارية أو الماركة.
فأنت تبرهن على أنك ذكي وابن ناس وغني بارتدائك لملابس وإكسسوارات من (ماركة) فاخرة وكلما كانت الماركة مرتفعة الثمن كلما كنت ابن ناس أكثر وجاهة وتميزاً.
وكلما زاد دخلك ورغبت في المزيد فهناك دائماً المزيد من الماركات الأعلى سعراً والأكثر فخامة، تماماً كما كان الناس في العصر الروماني يفعلون في ملابسهم. هل سألت نفسك من قبل لماذا يصف الناس على من يرتدي زياً مقلداً أو رخيص الثمن بأنه (خدمي) و(بيئة) و(بلدي) و(بدوي)؟ لأنهم ببساطة عادوا يمارسون التصنيف الطبقي الذي مارسه أجدادهم من قبل دون أن يشعروا.
لكن مشكلة التمييز في هذا العصر أن حدوده لا ترسمها عراقة الأنساب وقوة النفوذ بل جشع التاجر ولأن التاجر لا يهتم إلا بالربح فإنه يبقي الباب مفتوحاً على الدوام للانضمام لركب الأسياد، فقط اشتر منتجاتنا (الأصلية) لتصبح منهم، لا يهم أن تستدين أو تستهلك دخلك كله في بضعة أمتار من القماش والجلد المهم أن لا تكون رخيصاً ومقلداً وتفقد احترام الناس لك، ومهما كان دخلك فهناك دائماً ماركة ما تستطيع شراءها ولكن لابد أن تجتهد أكثر لتتسلق سلم الوهم الذي لا نهاية له!


نشرت هذه المادة في صحيفة الشرق المطبوعة العدد رقم (١٧٤) صفحة (١٧) بتاريخ (٢٦-٠٥-٢٠١٢)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق