الثلاثاء، 4 ديسمبر 2012

كيف يموت الناس في مستشفى حاصل على شهادة الجودة؟


"الانبهار"..
الانبهار هو كلمة السر هنا.. عليك أن تنبهر، تنبهر بشدة بمجرد دخولك من البوابة الزجاجية الواسعة، بمجرد ملامسة قدميك للأرضية الرخامية الصقيلة، بمجرد أن تلفحك نسمة الهواء الباردة لحظة عبورك إلى الداخل. لابد أن تشعر بشيء من الرهبة، شيء من التردد. لا بد أن تهتز ثقتك في نفسك قليلاً، أن تراجع هندامك و تتأكد من أن مظهرك لا يشي بك و لا يوحي براتبك الذي بالكاد يكفيك حتى نهاية الشهر.
لابد كذلك من منضدة استقبال عالية، منضدة مصنوعة من خشب فاخر داكن اللون و مزينة بشعار المستشفى. منضدة تقف خلفها موظفة حسناء تتظاهر بالانشغال، و تتجاهل وقوفك المتردد أمامها كي تشعرك بأهميتها و بأن ثمة زحام كذلك، الزحام يعطي الانطباع بأن خدمات المستشفى مطلوبة بشدة رغم سعرها المرتفع و أنك ستكون محظوظاً إن استطعت الظفر بشيء من خدماتهم الثمينة.
تنهي إجراءت التسجيل و تدفع المبلغ الباهظ و تعود لتنتظر، نعم لا بد أن تنتظر. أنت جالس في مقعدك تتأمل السقف و الجدران و الديكورات الفاخرة، كل شيء يوحي بالفخامة والرقي، إعلانات ملونة كبيرة تحمل صوراً لأطباء مبتسمين و طبيبات مبتسمات في مودة "وصول البرفسور فلان استشاري كذا و كذا.." " عودة الدكتورة فلانة استشارية كذا و كذا.. و المتخصصة في عمليات كذا و كذا. تهز رأسك في تعجب و تقول في سرك لابد أنك الآن في قلعة الطب الحصينة، تلفت نظرك تلك الشهادة الكبيرة المطبوعة على النحاس المذهب تقول بأن المستشفى حاصل على شهادة الجودة من منظمة (...) الدولية. طبعاً لابد من اسم اجنبي مكون من جملة طويلة و معقدة. لكنه و الحق يقال يعطي رهبة و هيبة لا تنكران للشهادة و للمستشفى.
قلعة الطب الحصينة، و قبلة المرضى الباحثين عن الشفاء. لقد بذل القائمون عليها الكثير لتبلغ ما بلغت، خصوصاً في موضوع شهادات الجودة هذا. لقد كلفهم الكثير فهؤلاء الأجانب مولعون بالورق..الكثير من الورق خطط عمل، خطط تموين، خطط طوارئ ، خطط إخلاء..خطط..خطط..خطط. لا مشكلة. كما أنهم مولعون باللوحات و الأبواب و الخرائط الملونة: مدخل ،مخرج، مصعد، باب حريق، الخ..الخ..لا مشكلة كذلك.
قد يتطلب الأمر بعض النفقات أحياناً كهدم جدار أو فتح باب أو نافذة. لا مشكلة كذلك فالجودة تستحق. يتحفز الطاقم كله يوم التقييم يحفظ الجميع أدوارهم و يراجعون السيناريو للمرة العاشرة تقتنع لجنة التقييم و تمنح الشهادة الفاخرة، يتم تعليقها على الجدار و رفع الرسوم لتعويض نفقاتها ولا بأس بخطابي تهنئة وبضعة إعلانات قبل أن ينفض السامر.
ماذا؟ هل قلت لديك نقص في طاقم العمليات؟ تصرف يا أخي تصرف. لا يوجد طبيب تخدير مرخص؟ لا يهم أي طبيب لديه خبرة يفي بالغرض. تحتاج وقتاً أطول لفحص المرضى؟ لا لا هذا غير ممكن لديك قائمة بأربعين مريض يجب أن تنهيها اليوم كي تحصل على راتبك.
طبيب التخدير فشل في إدخال الأنبوب للمريض؟ توفي؟ لا بأس قضاء و قدر، خطأ بسيط يحدث في أكبر مستشفيات العالم، من لا يعمل لا يخطيء. الطبيب غير مرخص؟ ولا يحمل إقامة نظامية وليس على كفالة المستشفى؟ مجرد تعقيدات روتينية نحن مستشفى محترم و لنا سمعتنا و إنجازاتنا. لا راد لقضاء الله يا سادة. ثم إننا دفعنا الدية و الغرامة المقررة فلا تزعجونا من فضلكم.
ماذا أيضاً؟ توفي طفل في غرفة الأشعة؟ الأشعة لا تقتل أحداً يا أخي. لم يكن يجري أشعة؟ ماذا يفعل إذاً؟ يجري أخذ عينة له و توفي بسبب نقص الأكسجين؟ هذا كلام متناقض لا بد أن هناك خطأ ما. أجل فني الصيانة هو السبب، ليست مشكلتنا نحن، نحن مستشفى محترم يا سادة و لدينا شهادة الجودة. لقد رفعنا قضية على شركة الصيانة و نطالب بالحد الأعلى من التعويض.
....
.....
الممرضة تكرر اسمك في ملل، تشير لك لتتبعها إلى عيادة الطبيب، يفحصك على عجل يطلب عدداً من التحاليل و يقول لك لابد من أخذ عينة من الغدة، العملية بسيطة و سريعة و من الممكن أن تجريها تحت التخدير لو أحببت. تتوجس قليلاً و تتلعثم يقاطعك متابعاً:
-لا تقلق من شيء صدقني الموضوع بسيط و نحن مستشفى كبير و نجري عشرات العمليات كل يوم.
تهز رأسك.. أنت في قلعة الطب الحصينةلا زالت تُسكِرُك الديكورات الفاخرة و الموظفة الحسناء و المنضدة الخشبية الداكنة و وجوه الأطباء المبتسمة في الإعلانات، توافق على العملية و تخرج مع الممرضة لإنهاء الإجراءت تقول لك بصوت هامس ودود "لا تخف"
و تتظرف أنت و تجيب" لا أحد يموت قبل أجله" ..لكن هاتفاً خفياً في زوايا مخك يبدأ بالنحيب وهو يهتف..
وحدووووه!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق