الثلاثاء، 27 مايو 2014

في عتاب من رحلوا..!

لم تكن القسوة من طبعكم يوماً.. لكن كأن حبكم و لطفكم كان سداً يحجز سيل الأسى الجارف الذي انطلق هادراً بمجرد رحيلكم
أي قسوة تلك التي تجعلكم تغلقون في وجوهنا أبواب غرف قلوبكم الدافئة، تحملون مفاتحها و ترحلون..و تتركوننا لبرد الانتظار الذي لا يرحم.!
ترحلون بلا سابق تمهيد و لا تلويحة وداع.. تحملون حقائب البهجة و أثواب السعادة معكم و لا تتركون لنا سوى مرارة الذكريات.

ترحلون فتتركون في زجاج الروح شرخاً و في رغيف القلب قضمة و في محجر العين دمعة لا تنطفئ.
تحملون بعضاً منا معكم فنظل في حيرة الفقد و فتنة السؤال و متاهة البحث عن ضمادة توقف نزيف الجرح الذي لا يندمل
ما عادت الدنيا من بعدكم كما كانت.. تشرق الشمس وتتفتح الأزهار و تغرد العصافير و لكن لا بهجة ضياء هناك و لا طرب ألوان و نغم هنا. ثمة شيء قد ذهب، شيء سلب الحواس قدرتها على تذوق النشوة، على الاستمتاع و البهجة، كل الألوان تضاءلت لتصبح بين الأسود و الرمادي، و كل الأنغام تلاشت لتصبح أقرب لنواح مرير لا ينقطع.
مالذي فعلتموه بنا بذلك الغياب الأقرب للخديعة؟ لستم أنتم من بدلتم الدار و السكن؛ بل نحن.. نحن الذين أصبحنا غرباء و أيتام في دار تبدو كأنها ذات الدار، و شوارع تتظاهر بأنها ذات الشوارع و زوايا لم نعد نعرفها رغم أنها تتدعي العكس. كل شيء تنكر لنا برحيلكم و أصبح نائياً و بارداً، و ها نحن نعود أطفالاً صغاراً ضلوا الطريق في يوم مزدحم و ينتظرون أباهم كي يعود و يجدهم..لكننا نعرف أن لا أحد سيعود.. و أن غربتنا و اتظارنا دائمين كلعنة لا تزول!
.......
.......
لا شيء في الدنيا يشعرني بمدى ضعفي و يتمي و قلة حيلتي مثل "المعلاة"*.. فرغم الشيب الذي يغزو قلبي لازلت أشعر كلما دخلتها أنني ذات الطفل التائه الذي دخلها قبل ثلاثة عقود و هو يركض جاهداً للحاق بجنازة أبيه و يتخبط بين السيقان و لا يشعر به أحد.
لا زلت أشعر بذات الغصة و ذات الحيرة وذات الفقد ..بذات العتب على أبي الذي مضى سريعاً و تركني بعيدا خلفه لا أكاد أدركه.
رغم كل تلك السنوات، لازلت أخشى المعلاة..لازلت أستشعر قسوتها و وحشة رمالها، فكلما وطأتها بقدمي أعود و قد فقدت بعضي في جوفها .. أخرج أشكو ألم الجراح الغائرة.. الجراح التي التي على عمقها و اتساعها....لا يكاد يراها أحد!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* المعلاة: مقبرة لأهالي مكة قرب الحرم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق