الجمعة، 6 سبتمبر 2013

"حياتي".. يالها من حياة! (٢)

ثمة كتب تترك أثرها العميق في وجدانك، تغير نظرتك للحياة و العالم من حولك، تأخذ بتلابيبك و تهزك حتى إذا تركتك لم تعد ذات الشخص الذي أمسك بالغلاف قبل ساعات. تلك العينة النادرة من الكتب لا تندرج تحت تصنيف معين و لا تقتصر على ما يخطه الأدباء، بل قد تكون كتب في مجال الفلسفة أو التاريخ أو السياسة أو الفن بتعريفه الواسع، لكن ثمة عوامل مشتركة تجمعها جميعاً: عمق الفكرة و سلاسة العبارة و الأهم من ذلك هو حرارة الصدق التي تنبعث من بين ثنايا السطور فتكاد تلسع أناملك و أنت تقرأ!.
كتاب "حياتي" لأحمد أمين هو أحد تلك الكتب النادرة، كتاب من كتب السيرة الذاتية التي تأخذ بيدك في رفق و تجول بك في عالم صاحبها بكل تجرد و تواضع بلا تصنع أو ادعاء، يحكي بعين الراوي فصول حياته الحافلة، يمزج ببراعة بين وصف المشاهد و الأماكن و الشخصيات و بين مشاعره و انطباعاته تجاهها، و كيف أثر ذلك الموقف أو تلك الحادثة في مسار حياته الحافل.
أحمد أمين صاحب فجر الإسلام، و ضحى الإسلام، و قائمة مهمة من الكتب، و عميد كلية الآداب في جامعة القاهرة، و رئيس تحرير مجلة الثقافة العريقة، و لجنة التأليف و الترجمة و النشر في عصرها الذهبي، يطرح عن نفسه كل تلك الألقاب و يلاقيك في الكتاب بكل تواضع و إنسانية، يحكي عن حزنه الدائم و يحاول أن يجد له تبريراً بوفاة شقيقته في الوقت الذي كان حملاً في بطن أمه فيقول (تغذيت دماً حزيناً، و رضعت بعد ولادتي لبناً حزيناً، و استقبلت عند و لادتي استقبالاً حزيناً، فهل كان لذلك أثر فيما غلب علي من الحزن في حياتي فلا أفرح كما يفرح الناس، و لا أبتهج كما يبتهجون؟)، يحكي عن بيتهم الصغير المفروش بالحصير، عن راتب أبيه المتواضع، و عن إخوته الذين تخطفهم الموت و المرض، و أمه التي تحملت مشقة الحياة بصبر و رضا، عن حارتهم الضيقة، عن الجيران، عن النساء في ذلك الزمان و حجابهن و طريقة مشيهن في الحارة، عن الأزهر و حلقاته و توهانه في دراسته، ثم انتقاله إلى المدرسة النظامية، عن دارسته اللغة الإنجليزية بجهد شخصي في المنزل ثم على يد معلمة انجلزية أعجب بها لاحقاً و لكنه لم يصارحها بذلك الحب!. عن انتقاده للوضع السياسي في خطبة حماسية في إحدى الحفلات و ما كادت تجره عليه من أذى، عن رفاقه في طريق البحث و المعرفة، عن طه حسين تحديداً، و كيف تلازما ثم افترقا دون أن يبين السبب و إن كان يحتفظ له بالود و الفضل.
عن حيرته بين عمامة الأزهري، و طربوش الأستاذ الجامعي، عن حرمانه من لقب الدكتوراه و المناصب و تحويلها لغيره في مواقف عدة بسبب آرائه السياسية، عن رحلاته المتعددة حول العالم، ثم محطته الأخيرة مقعداً في المنزل شبه كفيف محروماً من متعته الوحيدة في الحياة و هي مرافقة الكتب.

حياة حقيقة حافلة ستنبعث بين يديك و أنت تمسك دفتي الكتاب.. حياة تصيبك بشيء من الحسرة على ما آلت إليه مصر اليوم.. و ما آل إليه حال الثقافة فيها من ترد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق