الأربعاء، 18 يوليو 2012

الغربي الطيب و الغربي الشرير..عودة الثاليدومايد


جميلة هي قصص الأطفال التي كنا نسمعها ونحن صغار حيث الأبيض أبيض و الأسود أسود بدون تعقيدات، حيث الشرير هو الذئب أو الثعلب المكار و الطيب هو الأرنب أو الخروف أو ليلى الطفلة الصغيرة ذات الضفيرتين. حيث تكون النهايات حاسمة و سعيدة، فدائماً ما يتدخل الراعي أو أحد حيوانات الغابة للقضاء على الأشرار و نصرة الطيبين.
لكننا كبرنا لنكتشف أن الحياة أكثر تعقيداً مما كنا نظن و أنه لا وجود للأشرار و الطيبين بصورتهم النقية الساذجة تلك، و أن كل مجتمع يحتوي من التداخل و التباين ما يجعل الناس مزيجا رمادياً يصعب تصنيفه إلا حسب موقف معين أو كارثة ما توحد الناس في صف واحد، و تبرز شخصية من ذلك المجتمع لتكون الراعي الطيب الذي يدافع عن القطيع في مواجهة الذئاب إن صح التشبيه.
كان عقار (ثاليدومايد) أحد تلك الكوارث التي حلت بالعالم الغربي في ستينات القرن الماضي و أنتجت جيلاً كاملاً من الأطفال المشوهين فاقدي الأطراف نتيجة تناول أمهاتهم لذلك العقار و الذين عرفوا بجيل الثاليدومايد. كان الدكتور لينز الطبيب الألماني الذي نشر أول الأبحاث التي كشفت الكارثة أحد تلك الشخصيات الفارقة في القصة المثيرة، حيث لم يكن يتوقع و هو ينشر بحثه المثير أن ذلك البحث سيغير حياته إلى الأبد و أنه سيربط اسمه بذلك العقار في كل المراجع الطبية و القانونية التي وثقت القصة. يروي د. لينز أنه اجرى اتصالات مكثفة بالشركة المصنعة بعد اكتشافه للكارثة لكنه لم يلق تجاوباً كافياً مما جعله يتهمها فيما بعد بمحاولة كتم المعلومات و التهرب من المسؤلية، ثم اتجه بعد ذلك إلى الجهات الحكومية و التي تجاوبت سريعاً و أوقفت بيع العقار بعد عشرة أيام فقط من المداولات، أثار ذلك الإيقاف موجة جدل كبيرة في الصحف و سرعان ماتم إيقافه في باقي الدول الأوروبية، و حدها اليابان التي استغرقت عاماً كاملا من المداولات حتى صدر قرار الايقاف و قد كان ثمن ذلك التأخير باهظاً جداً حيث أن موجة المواليد المشوهين استمرت لعام اضافي بعد انتهائها في أوروبا. لكن إيقاف الدواء لم يكن نهاية المعركة حيث خاض الدكتور لينز معركة مريرة على عدة جبهات كان عليه أن يواجه الشركة المصنعة في ساحات المحاكم و بالفعل قام بتقديم شهادته في عدة محاكمات في ألمانيا و خارجها، لكن الشركة استطاعت النفاذ من العقاب و دفعت مبلغ ١٠٠ مليون مارك ألماني للضحايا في اتفاق صلح خارج المحكمة كما كان على الدكتور لينز و رفاقه أن يخوضوا معركة أخرى مع المرض ذاته، و أن يشخصوا كل حالة تأتيهم تشتكي من التشوهات ليتأكدوا بالفعل إن كانت نتيجة العقار أم نتيجة أسباب أخرى مرتبطة بعوامل وراثية و قادهم ذلك البحث إلى اكتشاف مضاعفات أكثر خطورة للثاليدومايد فهو لا يكتفي بتشوهات الأطراف فقط بل يسبب الصمم و تلف الكلى و القلب و الجهاز التناسلي بل و الأكثر هولا أن نسبة ٤٠٪ من الضحايا يتوفون قبل اتمام عامهم الأول. في خضم تلك المعركة الساخنة كانت هناك فصول أكثر إثارة تنتظر في الشرق هذه المرة، حيث قام طبيب إسرائيلي في جامعة حداسا بتجربة الدواء المشؤم على مرضى يعانون من مضاعفات مؤلمة لمرض الجذام، و العجيب أن الثاليدومايد ساعدهم على النوم و قتل الألم، و حتى على إخفاء آثار الالتهاب على الجلد، و لم تكن تلك المفاجأة الوحيدة فبعد ذلك بسنوات تمت تجربة العقار على تشكيلة كبيرة من الأمراض المستعصية و العجيب أنه أثبت فعالية واعدة في علاج أحد أنواع سرطان النخاع العظمي و الذي يقتل ضحاياه عادة خلال الخمس سنوات الأولى لكن الأبحاث وجدت أن الثاليدومايد مع أدوية أخرى يقلل تطور المرض في أكثر من ٣٠٪ من الحالات التي تشخص مبكراً!. و هكذا عاد الثاليدومايد للظهور مجدداً، وحصل -صدق أو لا تصدق- على موافقة هيئة الغذاء و الدواء الأمريكية في عام ١٩٩٨ كعلاج لمضاعفات الجذام و لكن مع برتوكول مشدد تلتزم به الشركة المصنعة يقتضي تسجيل بيانات كل من وصف الدواء و كل من يتعاطاه بعد توقيع إقرارات متعددة. وبالطبع لم يكن ذلك البرتوكول موجودا خارج أمريكا حيث عاد العقار للتداول في دول العالم الثالث و أمريكا اللاتينية، و ظهرت سوق سوداء كبيره له في بعض الدول و عادت حالات أطفال الثاليدومايد للظهور!. ليتجلى السؤال الرمادي: هل الثاليدومايد نبت شيطاني يجب محاربته و اجتثاثه؟ أم أنه دواء أسيء استخدامه بحسن نيه؟ أم أن هناك فجوة سوداء كبيرة لتجارة الدواء تتلاعب بصحتنا بلا رحمة دون أن نملك حيالها شيئاً؟
أليست قصة ليلى و الذئب أكثر وضوحاً إنسانية؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق