الخميس، 26 يوليو 2012

المقعد الخالي على مائدة الإفطار


كل عام و أنت بخير عزيزي القارئ، كل عام و بركات رمضان تحوطك بنسائمها و تغمرك نفحاتها فتخفف عنك حرارة الجو و تطفئ ببرد الرحمة لهب المعصية.
أتذكر عندما كنت طفلاً أحاول الصيام – وربما كنت مثلي-أن رمضان كان يحل في فصل الصيف في أجواء مشابهة لهذه الأجواء، كانت أشد الأوقات صعوبة هي الساعة الأخيرة قبل الإفطار و التي يكون الإنهاك قد بلغ فيها قمته و العطش قد جفف ما بقي من الريق و يزيد الإمر صعوبة دوارق الماء المبرد و العصير المثلج و أطباق الطعام الشهي وهي ترتص على المائدة انتظاراً لرفع الأذان الذي يبدو أنه تأخر دهراً كاملاً، لكن ما كان يمحو تلك المعاناة و يقلبها لذة لا تضاهى هو ذلك الشعور بالانتصار على النفس الذي يخالطه الفخر بكلمات التشجيع التي أتلقاها من أفراد الأسرة. كانت أجواء الإفطار حميمية و دافئة تكللها لمسة روحانية لا تخطئها النفس. و كان يتوجها الضيف الدائم على مائدة الإفطارالذي يطل علينا من شاشة التلفزون بعد صلاة المغرب كل يوم، كان شيخاً لطيفاً بشوش الملامح وضيئ القسمات تعلو وجهه ابتسامة طفولية لا تخطئها العين يرتدي غترة بيضاء منسدلة و ثوباً واسع الأكمام و يتحدث دائماً و إلى جوارة جهاز التسجيل (الكاسيت) الذي يشغله عند بداية الحلقة و أمامة طبق من الفاكهة البلاستيكية لتعبر عن أجواء البرنامج المسمى(على مائدة الإفطار). ظللت لسنوات لا أعرف عن الشيخ علي الطنطاوي سوى برامجه التلفزونية و كنت أستغرب التفاف الأسرة حوله و اصغاءهم لحديثه رغم تباين مشاربهم و تفاوت أعمارهم، و هو الأمر النادر الذي لا يتكرر أبداً مع أي برامج التلفزون سواء كانت دينية أو ترفيهية. وظل انطباعي عنه أنه شيخ يفتي و يحل مشكلات الناس، يتحدث بسلاسة لكنه يستطرد كثيراً و كثيراً ما ينسى الموضوع الذي بدأ منه الحديث لكنه رغم ذلك يملك جاذبية لا تقاوم، ظلت تلك الصورة النمطية عندي حتى وقعت صدفة على كتاب (رجال من التاريخ) الذي ألفه الشيخ و ياله من كتاب، أذكر أنني كنت في المرحلة الثانوية وقتها و وقع الكتاب في يدي صدفة و شرعت أقرأه دون أن أنتبه أن مؤلفه علي الطنطاوي، و ما هي إلا صفحات قلائل حتى استحوذ علي الكتاب بالكامل، كان مكتوباً بلغة عصرية جذابة أقرب ما تكون إلى التصوير السينمائي، أحداث و مواقع و مشاهد..خيول و حروب و مواجهات.. سرد أدبي بديع لا يشبه أي شيء قرأته من قبل، أنهيت الكتاب و أنا ألهث و كنت أعود في كل مرة للغلاف لأتأكد أن هذا الأديب البارع هو ذاته ذلك الشيخ البشوش. كنت أكتشف العالم الآخر لعلي الطنطاوي و الذي استغرقني بالكامل لسنوات لاحقة غصت خلالها في عشرات العناوين لكتبه البديعة، كان علي الطنطاوي مكتبة متفردة من الإبداع، لم يكن يصنف ولا يؤلف على طريقة العلماء و الباحثين و لم يكن كذلك يكتب وعظاً بارداً، لقد كان علي الطنطاوي يكتب في كل كتبه عن نفسه، تماماً كما يفعل أعظم الروائيين و الكتاب في العالم، لم يكن لديه ذلك الفصل الحاد بين الخاص و العام. كان يكتب بصدق و انفتاح و عفوية لكن مع حرارة و موهبة متفجرة في كل سطر يحكي عن يتمه وفقره في صغره عن ولعه بالأدب عن حياته بين الشام و مصر، عن أسفاره المتعددة عن زلاته و أخطائه و لحظات ضعفه، كان عندما يقدم نصيحة يبدأها بقصة من حياته اليومية و كيف قادته لتلك الخلاصة، و عندما يحذر من خطأ أو ينهى عن موقف فإنه لا يخجل أن يروي تجربته مع ذلك الخطأ حتى لو كان مجرد إحساس عابر.
علي الطنطاوي أديب عملاق يأخذ بتلابيبك في ثنايا ما يكتب يحبس أنفاسك و يخطف بصرك فلا تعود تدرك شيئاً مما حولك حتى تترك الكتاب منبهراً ذاهلا عما جرى خلال الساعات التي كنت فيها بصحبته. إن كنت تبحث عن قراءة ممتعة و مفيدة في رمضان، تقربك إلى الله و إلى نفسك دون أن تشعر بالملل فدونك كتب علي الطنطاوي، إقرأ إن شئت (رجال من التاريخ) و (قصص من التاريخ) لتعيش سير الصالحين و تراها كما لم ترها من قبل و كما لا يستطيع أي عمل درامي أن يفعل، إقرأ (أخبار عمر) بدلا من مشاهدة المسلسل المثير للجدل ، اقرأ (من حديث النفس) حيث الفصول الأكثر بساطة و صدقا و إيجازا عن علي الطنطاوي الإنسان.
رحم الله العلامة الأديب المفكر علي الطنطاوي لقد رحل و ترك مقعده على مائدة الإفطار خالياً ولا أظن أن أحداً يستطيع أن يشغله من بعده مهما حاول

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق