الأربعاء، 18 يوليو 2012

الضرر هنا و الربح هناك!


قبل أسابيع سافر أخي الأصغر للحاق ببعثة دراسية في الولايات المتحدة الأمريكية، و خلال فترة التحضير للسفر كان يتلقى اتصالات متعددة من زملائة الذين سبقوه في السفر يطلبون منه أن يحضر لهم بعض المتطلبات التي جهزها أهلوهم و التي يفتقدون وجودها في بلاد الغربة، و كان أخي يقوم بتلك المهمة في حماس و يحرص على تلبية طلبات أصدقائه مهما بدت غريبة و غير مألوفة لكن أغرب طلب تلقاه و جعله يتردد في تلبيته هو ما أحضره أحد أقارب صديقه و طلب منه برجاء حار اصطحابه معه لأن صديقه يفتقده بشدة هناك!. كان ذلك الشيء عبارة عن عبوات كبيرة من سجائر مارلبورو بغلافها الأحمر الجذاب مع جملة كتب عليها بالخط الأسود العريض (صنع في الولايات المتجدة الأمركية)، كان الأمر محيراً و باعثاً للدهشة في ذات الوقت كيف يطلب شخص مقيم في الولايات المتحدة من شخص في السعودية أن يحضر له منتجاً أمركياً يصنع هناك و يصدر لكل دول العالم؟ لكن الدهشة تراجعت قليلاً عندما عرف أن سبب الافتقاد ليس ندرة المنتج في بلده و لكن فرق السعر، فعلبة السجائر الصغيرة المصنعة في أمريكا تكلف المستهلك المقيم في أمريكا ثمانية دولارات أي ما يقارب الثلاثين ريالاً في حين أن ذات العلبة تكلف المستهلك في السعودية أقل من ثلث هذا المبلغ رغم تكاليف الشحن و التوزيع و الجمارك.
المفارقة العجيبة في السعر ليست وليدة الصدفة أو جشع التجار هذه المرة بل هي نتاج لمعارك و حروب قضائية و حكومية مستمرة ظلت تضيق الخناق على صناعة التبغ في أمريكا و تحاصرها بالضرائب و منع الإعلانات و قضايا التعويضات و منع التدخين في الأماكن العامة حتى تقلل من الضرر القاتل الذي تسببه تلك التجارة على المجتمع، فالحكومات الغربية لا تنظر للتدخين نظرة أخلاقية ولا تعامله كعادة سيئة ينبغي محاربتها لأجل عيون الإنسانية، لكنها تتعامل معها بلغة الأرقام فتجارة التبغ ترفع عدد الوفيات في البلاد و تقلل من الإنتاجية و تزيد من الطلب على الخدمات الصحية بسبب الأمراض الناتجة عنه كأمراض القلب و الشرايين و السرطانات إلى آخر السلسة الطويلة من الأمراض المكلفة جداً في قائمة الرعاية الصحية.فبالتالي لابد من محاربتها و تقليل ضررها من جهة و تحميل منتجيها تكاليف الرعاية الصحية الباهظة من جهة أخرى عبر الضرائب العالية و قضايا التعويضات لكن شركات التبغ العملاقة لم تكن في يوم من الأيام خصماً سهلاً، و إذا كنت متابعاً جيداً للسينما فلا بد أنك تذكر الفيلم الشهير لراسل كرو و ألباتشينو بعنوان (the insider) و الذي يروي قصة حقيقية لباحث كيميائي يعمل في شركة تبغ كبيرة و يظهر في مقابلة تلفزونية ليفشي أسراراً داخلية لأبحاث الشركة و يتهمها بإضافة مواد للسجائر تؤدي إلى الإدمان و كتمان تلك المعلومات عن الحكومة و عن العامة، مما فتح عليه أبواب الجحيم و جعل الشركة تدمر حياته المهنية و تتهمة بتسريب معلومات سرية ليصبح أحد الضحايا في معركة التبغ الطويلة. لأجل ذلك لجأت الشركات العملاقة إلى الخروج من عنق الزجاجةو التركيز على الأسواق الجديدة في العالم الثالث حيث القوانين أقل صرامة و الضرائب شبه معدومة، وباستراتيجية تهدف للتوسع مع هامش ربح ضيق نجحت تلك الشركات في الحصول على مدخنين جدد في مجتمعاتنا مستهدفةً صغار السن من الجنسين حيث أنهم الفئة الأكثر ولاء لعادة التدخين على المدى الطويل و حيث لا قوانين صارمة تحميهم من أنياب تلك الشركات. ولك أن تتخيل يا صديقي أن تلك المعادلة(الضرر هناك.. و الربح هنا) جعلت الشركات تنعم بسلام نسبي مع حكوماتها خصوصاً وقت الأزمات الاقتصادية فتجارة التبغ تدر دخلاً يقدر بالمليارات لاقتصاديات تلك الدول و العلامة التجارية لمنتج واحد مثل مارلبورو تقدر قيمتها بما يزيد على ٢١ مليار دولار متفوقة على شركات مثل أمريكان اكسبرس المالية و اتش بي للحاسبات.
قلت لأخي إن صديقك لديه فرصة ذهبية للإقلاع عن التدخين، فقد بدأ يحصل على معاملة سكان العالم الأول و هناك من يحرص على صحته و يسن القوانين لأجله فدعه و شأنه. سافر أخي و ترك عبوة السجائر دون أن يصطحبها،كان لونها الأحمر جذاباً و مغرياً بالفعل و منظر الإعلان الرجولي لراعي البقر فوق حصانه ينادي (تعال إلى حيث النكهة) يداعب خيال أي مراهق على أعتاب الرجولة و هو ما يجعلني أتساءل كم مدخنا جديدا يسقط في إغراء تلك العبوة كل يوم؟ أليس منع بيعها للصغار و رفع سعرها عند بيعها للراشدين أجدى من عشرات النصائح التي أثبتت فشلها؟ أليس من الأولى أن نقلد العالم الأول كي نكتفي شره على الأقل..فنخرج كفافا لا ربح ولا ضرر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق