بقلم/ فراس عالم
- 1 -
ارتفع رنين الهاتف مدوياً كجرس كنيسة متزمتة، فتحت عيني ببطء بعد الرنين الخامس، أو السادس.. كان يواصل الرنين في إصرار محموم لا يريد أن ينتهي وكأنه نذير ملتاع يريد أن يطرق باباً مغلقاً ليبلغ أخباراً سيئة.
..( خبر السوء لا يتأخر )...
كانت أمي تقولها مبررة نزعها لقابس الهاتف عندما ننام ليلاً. تمنيت لحظتها لو أنني فعلت مثلها قبل أن أنام.
أنا الذي لم أعد أنعم بساعات نوم مريحة أو متصلة، كان.. ينبغي أن أكون أكثر حذراً قبل أن أسلم رأسي للوسادة المكورة تحت رأسي.
غابت بعقلي الخيالات مجدداً . تري من تراه يكون ؟ لا أحد يدق بهذا الإصرار في هذه الساعة المتأخرة أبداً.. .. تري كم الساعة الآن ؟.. لا ألبس ساعتي، منذ اشتريت ساعتي الغالية وأنا أنزعها قبل أن أنام.. أخاف عليها أن تخدش خلال حركة يدي العنيفة . كم أنا عنيف عندما أنام، أمي تقول أن ذلك يعود إلي شخصيتي، شخصيتي المغلقة والتي لا تبوح بما في داخلها وتفرغ انفعالاتها أثناء النوم.. أصدقائي يقولون إن دمي ثقيل، وأنني لا أصلح للمعاشرة.. زملائي لا يستلطفونني.. زواجي فشل مرتين متتاليتين.. أقنعتني بروعة العزوبية أخ.. الجو بارد بالفعل.. الوسادة لينة.. كم الساعة الآن ؟ ما الذي أيقظني ؟.. أنقلب علي جنبي الآخر.. أتثاءب بعمق.. و.. أخخخ.
ذلك الرنين الملعون.. لقد عاد ليدوي من جديد.. انتزعني من خيمة جميلة دخلتها للتو.. خيمة حريرية شفافة في وسط الصحراء.. صحراء مقمرة.. وسماء مليئة بالنجوم.. ورفيقة.. أخ.. كانت جميلة بالفعل.. لكن تباً.. ذلك اللعين الذي يرن في إصرار.. هذه المرة كأنه دائن شرس لا ينوي الانصراف قبل أن يأخذ دينه، ولكني لست مديناً لأحد.. أنا لست مديناً لأحد.. أجل.. غداً سأتخلص من هذا الهاتف اللعين.. سأرميه في البحر.. آخذه إلي أبعد نقطة في المحيط وألقيه هناك.. لن يعود ليزعجني أبداً .
-( ترررن.. .. .ترررن)
أنقلب علي بطني.. أرمقه بنصف عين ملقي هناك في آخر الغرفة، إلي جوار كومة كبيرة من الجرائد، أقيس المسافة ببصري، علي أن أسير أربعة أمتار كاملة.. هذا يعني أن أستيقظ تماماً .أن أضيع هذه اللحظة الثمينة وأن أظل أخبط رأسي في الحائط ما بقي لي من الليل . ولكني أفعل الشيء نفسه الآن.. وهذا الرنين الوقح يخبط داخل جمجمتي بلا هوادة.. ولا يريد أن يتوقف.. اللعنة.. سأشتمه.. سأشتمه مهما يكن هذا المتصل السمج !
-(مساء الخير)
كان صوتاً ذكورياً، دافئاً، ورائقاً، كأنه صوت مذيع أو مطرب مشهور
-(نحن قناة .... ، نريد أن نأخذ تعليقك علي الإصلاحات السياسية الأخيرة بصفتك خبيراً في الشؤون الإقليمية..) صمت للحظة أستجمع شتات عقلي الممزق، ثم انفجرت صائحاً..
-( هل تمزح يا ابن ال(.. .. .)، تتصل في منتصف الليل كي تمزح مزاحك الثقيل هذا.. قسماً لأعلمنك الأدب يا قليل الأدب.. .
ضحكة عميقة ورنانة جعلتني أوقف سيل شتائمي، ليست ضحكة سخرية أو استهزاء، ضحكة صافية ومرحة أقرب ما تكون إلي الاندهاش .
- (مالذي يضحكك؟)
بنفس واحد ولهجة حاولت ألا تجعلني أبدو مندهشاً أو مترقباً قلتها .
توقفت الضحكة العميقة تلك.. سعلة خفيفة.. نحنحة.. ثم
- (المعذرة.. .المعذرة يا دكتور فيصل لم أكن أنوي أن أسخر منك أبداً )
- (أنت وقح وقليل الأدب)
قلتها من غير اقتناع حقيقي وأنا أترقب حديثه الذي أحسست أن صوته به شيء خفي يشدني .
- (آسف.. آسف بشدة.. أكرر اعتذاري.. لقد قلت لك ذلك علي سبيل الدعابة.. أنت الذي أوحيت لي بالفكرة )
-(أنا.؟؟!!)
-(أجل أنت . ألم تعتقد أنني مذيع.. أو مغن مشهور.. لقد قررت أن أبدو كمذيع.. أردت فقط أن أحفزك علي الاستيقاظ )
هذا الكلب عم يتحدث؟؟ مذيع أو مغنٍ مشهور؟؟ كيف؟
- (أعرف أنك تتساءل.. لا تهتم يا صديقي هذه الأمور ثانوية ولا تهم أحداً.. أعرف أنك ذكي وأعقل كثيراً من أن تضيع جهدك في أمور تافهة كهذه )
- (ليكن.. الأمر كله تافه عندي، ولا أريد سماع كلمة إضافية . اذهب واعبث مع مغفل غيري !).
أغلقت الخط ولكن في غير حماس.. شيء في داخلي بدأ يلومني، كان ينبغي أن أعرف من هو صاحب الصوت الدافئ، وكيف خمن الفكرة التي في عقلي مباشرة ؟ بدأت أشعر بالندم. عدت إلي فراشي.. كورت الوسادة تحت رأسي.. وعبثاً حاولت أن أنام.
- 2 -
في الليلة التالية قربت الهاتف إلي جواري علي السرير، أطفأت الأنوار وظللت واضعاً يدي علي السماعة الباردة منتظراً اتصاله . ذلك الصوت المهذب العالم ببواطن الأمور، سوف يتصل بالتأكيد، سيتكلم بتلك اللهجة الراقية، لن أشتمه اليوم، سأدعه يتحدث ويقول ما يريد ربما ألومه برفق، وأعتذر له بعد ذلك وقد نغدو أصدقاء فيما بعد، من يدري. أنا لا أملك أصدقاء وهو يبدو مريحاً وذكياً.. ثم انه يعرفني جيداً.. يعرف ما أفكر فيه أجل ربما هو الصديق المنتظر.. لم لا؟ علي أن أصبر وسيتضح كل شيء.
شرعت أنقر بأصابعي علي الجهاز البارد لحناً قديماً أحبه وأدندن بصوت خافت..
صباحاً.. وجدت الهاتف مبعثراً علي وجهه علي الأرض والسماعة محشورة بين المرتبة وحافة السرير كشخص يوشك علي السقوط من فوق جسر ويطلب النجدة !
- 3 -
أويت مبكراً إلي الفراش في المساء التالي وضعت الهاتف علي الأرض بجوار السرير، فتحت نوراً خافتاً وبدأت أقرأ كتاباً سياسياً كبير الحجم آلم يدي . نحيته بعد فترة وشرعت أفكر في صديقي المحتمل.. سيعود ليتصل، أنا متأكد، يقين خفي يخبرني أنه سيعود، ربما كان مشغولاً البارحة أو غاضباً مني أو حاول الاتصال متأخراً بينما الخط معطل، اليوم أنا أكثر حذراً، الهاتف بحالة جيدة وقريب من متناول يدي . سأعتذر منه.. سأخبره أنني كنت غاضباً ومتوتراً وأنني لم أفق تماماً من تأثير النوم.. أنت شخص لطيف ومهذب وستقبل اعتذاري لاشك.. ربما أدعوه لزيارتي.. سأهديه مجموعة من الكتب.. بالتأكيد هو قاريء جيد.. قارئ نهم.. لست أشك في هذا، إن شخصاً يداعبك بسؤالك عن قضية إقليمية لهو شخص واسع الاطلاع حقاً، ربما كان كاتباً أيضاً.. من يدري ؟ربما أحد الكتاب البارعين في السياسة أو الأدب. سأسأله وسيجيب، سنحيي نقاشات مطولة هنا، سأحرجه بأسئلة كثيرة طالما أحرجت بها الآخرين لكنه سيجيبني بلباقة.. (دكتور فيصل، هذا سؤال ذكي لكنني أعتقد من وجهة نظري.. )
لا.. لن يقول من وجهة نظري.. أجل.. هو متواضع وذكي.. سيكون حريصاً علي انتقاء عباراته..
-(ترررررن)
قفزت كالملسوع أبحث عن الهاتف
-( مساء الخير دكتور فيصل)
- .. .. .
- (أرجو ألا تكون نائماً أو مشغولاً)
حاولت أن أجيب بأنني لست نائماً ولست مشغولاً إلا به، لكن لم يصدر من حلقي سوي حشرجة غير مفهومة..
-( عظيم.. عظيم جداً.. أنا لا أحب أن أكون فضولياً.. لا أحب الاتصال في أوقات متأخرة ولا أحب إزعاج الآخرين لكن ظروفاً قاسية هي التي تضطرني لذلك).
- .. .. .
مالذي يعنيه ب(قاسية)
- (لقد سررت بالتعرف إليك دكتور فيصل، أنت الأستاذ الخشن الصارم. لست محبوباً كثيراً حسب ما أعرف في الجامعة.. أليس كذلك ؟.. لا تغضب أرجوك.. ينبغي أن أصارحك بالحقيقة التي تعرف .
- .. .. .
- (حسناً.. لا أحد يحبك حباً استثنائياً ولا أحد يكرهك أنت من ذلك النوع الذي يتقبله الناس لأنه موجود وحسب، يتعاملون معه كأنه قضاء وقدر، مسلمة من مسلمات الحياة الجامعية، تماماً مثل طريق الجامعة المزدحم ومدخلها العتيق وسلالمها المكسرة.. لا احد يحب هذه الأشياء ولا أحد يكرهها كذلك الجميع يتعامل معها لأنها هناك . لكن المشكلة أن أحداً لن يحزن عندما يري ذات يوم عمالاً يحفرون الطريق القديم أو يهدمون المدخل أو حتي يجددون السلالم العتيقة بل إن البعض سيبدي ارتياحه لتغيير كهذا...
صمت قليلاً ومضي يتابع:
- (أنا آسف دكتور فيصل لا تغلق الخط أرجوك لا بد أن أكمل حديثي. أنت شخص منضبط، لا تجامل، لا تتغيب عن محاضراتك، لا تظلم أحداً، بل أنت حتي لا تدخن.. هذا جميل.. جميل جداً.. لكن لماذا لا تبدو سعيداً ؟؟ هه؟
لماذا تتوتر وتتصلب أطرافك بمجرد الحديث العابر عن أشياء تافهة كالملابس الداخلية والسجائر وشفرات الحلاقة؟
أنت متعب ومنهك لأنك متورط.. متورط في ذلك الإطار الصارم الذي حبست نفسك فيه.. في المعطف الأسمنتي الذي ألف الناس أن يروك داخله، في حاجبيك المقطبين علي الدوام، في الخطوط العميقة التي تحفر جبهتك، في الاحترام المبالغ الذي يحاصرك به الآخرون، في درجتك العلمية المهيبة.. .. مرجل روحك يتوقد.. يغلي.. يقذف النار .، وأنت تمور، تتخبط.. وتشقي لا تعرف كيف تتصرف...
- (أصمت)
بصوت خافت مبحوح نطقتها
-(لا زوجة لك ولا أصدقاء.. لأنه لا أحد يصادق الأسمنت.. وحتي الذين حاولوا أن يتكيفوا مع برودة وصلابة الغلاف /الصنم.. قمت بصدهم وأبعدتهم لأنك تعلم أن الصنم رغم ذلك كله هش ورقيق ومعرض للانكسار وأنك لا تعرف حقاً متي ينكسر ومالذي سينتج عن انكساره.. وهل ترغب أصلاً في تحطيمه أو لا.. أنت في وضع حرج بالفعل.. .
- (أصمت عليك اللعنة)
- (الظلام والنار لا يجتمعان)
- (تباً)
- (أخبرني ألازلت تشعر بالذنب تجاه سيجارة الحشيش التي دخنتها الأسبوع الماضي؟)
- (أو تجاه تلك الفتاة التي تكلمها كل ليلة في الهاتف وتتبذل معها في الحديث كأنك مراهق؟)
- (أو تجاه).. .
- (أصمت يا حيواااان.. .لا أسمح لك.)
- (عفواً.. عفواً.. يا دكتور.. أنا لا أتهمك بشيء ولا أحاسبك.. هذه ليست مهنتي.. أنا أعرف أنك رجل خيّر.. خيّر بالفعل.. وأن هذه الغرفة التي تجلس فيها بالذات تشهد ليالي طويلة من البكاء والتهجد.. هي ليال متقطعة.. لكنها مخلصة وصادقة.. أنا أشهد علي هذا .كما أعرف أيضاً أن جزءاً كبيراً من أموالك يتحول إلي صدقات دون أن يعلم أحد، أنت رجل صالح يا أستاذ.. لنقل رجل صالح له هفوات.. لا احد يلومك.. المشكلة هي أنت.. لو أنك زرت طبيباً غداً لأخبرك أنك علي شفا الموت ولسرد عليك قائمة طويلة من الأمراض تبدأ بضغط الدم والسكري ولا تنتهي بانسداد الشرايين التاجية.. وسيعطيك قائمة طويلة من الممنوعات التي أنت ممتنع عنها أصلاً).
صمت طويلاً . وأنا أتنفس بصوت مرتفع أقرب إلي اللهاث قبل أن يردف في صوت خافت.
- (المشكلة تكمن في قلبك.. هناك في الحجرة الصغيرة الضيقة داخل صدرك.. وأنا هنا لمساعدتك .لقد أخبرتك من قبل أنا لا أظهر إلا في الظروف القاسية، وظرفك قاس بالفعل)
- (سأخبرك ما الذي يمكنني أن أساعدك به.. سنبدأ بوسيلة سهلة، ثم نتدرج فيما بعد، سنبدأ بالحكي.. سأتصل بك كل ليلة لتحكي ما حدث معك، ما تنوي عمله، أفكارك المجنونة، أفكارك الوقحة، أفكارك المبتذلة، ستحكي كل شيء.. كل شيء يا دكتور فيصل.. لا حرج هناك.. ولا خوف.. أنا أعرف كل شيء مسبقاً.. وأنت ذكي بحيث إنك لن تسأل أسئلة تافهة من طراز كيف عرفت؟ وماذا تريد؟.. لقد اتفقنا من قبل أنك لن تسأل).
- .. .. .. .
- (تحية طيبة وتصبح علي خير).
وأغلق الخط.. لبثت قابضاً علي السماعة وعيناي غائمتان بدمعة حائرة وصداع عنيف يشج رأسي.. فتور ووهن ينخران أطرافي.. عاجز عن التفكير.. عاجز تماماً كجندي هرب من معركة خاسرة بعدما شاهد فرقته تباد، تسللت تحت الغطاء.. وأغمضت عيني.
- 4 -
الهاتف.. وأنا إلي جواره ( أنت لست صديقي ولن أحكي لك شيئاً.. أنت كاذب ومنافق وتحاول السيطرة علي بألاعيبك القذرة.. أنا أكرهك.. ولن أرد علي اتصالاتك بعد الآن.. اذهب إلي الجحيم.. أو افعل ما شئت.. )
رددت العبارة للمرة الألف.. أجل لن أسمح له بالسيطرة علي ذلك الثعبان الناعم.. .إنه دسيسة شخص ما.. ولن يخدعني.
رن الهاتف بعد منتصف الليل.. أغمضت عيني.. كتمت أنفاسي ورفعت السماعة.. أتاني صوته العذب الرخيم محيياً لكني لم أمنحه الفرصة، قذفت العبارة التي حفظتها في أذنه وأغلقت الخط.. زفرت في ارتياح..
لقد انتهي كل شيء .
- 5 -
مساءً.. ..
الهاتف صامت إلي جواري كثعبان ميت.. أنا أدخن سيجارة (مخصوصة)، أحدق في السقف وأنفث الدخان.. دخاناً أزرق كثيفاً.. يتجلي لي (هو)..
- (كم أنت جميل يا دكتور فيصل.. تبدو جميلاً وأنت خائف ومرتبك.. جميل في ثياب النوم التي تضفي عليك بساطة وألفة أكثر من ملابسك الرسمية صباحاً.. ليس من حقك أن تحار وتتوتر.. أنا هنا لمساعدتك قلت لك.. ليس لي أغراض أخري.. أو مطامع من التي تظن..).
عيناه الواسعتان ترنوان لي من بين الدخان.
- (لا تفعل هكذا بنفسك.)
عسليتان.. أم خضراوان.. أم زرقاوان؟.. لا أكاد اتبينهما.. جبهته عريضة شديدة البياض لا.. ليست شديدة البياض لكنها صافية ومتوهجة تماماً كصوته.. .و شعره.. شعره الكستنائي المموج.. يصففه علي الجهة اليسري.. يغطي أذنيه ويبتسم.. تظهر غمازتان عميقتان في وجنتيه وأسنان بيضاء منسقة.. و..
- (ألن تحكي لي ما حدث اليوم)
- (ولكنك تراني)
- (أحب أن أسمعك)
- (سأحكي.. .. .. .. .. .
.. .. .. .. .
.. .. .. ..
سأحكي.. ..
.. .. .. ..
.. .. .. ..
أخبرني في تلك الليلة أنه ذاهب إلي العمل نيابة عني، وأنه أقنعهم أنه أنا وأنهم رحبوا به، ووعدني بتحسين صورتي لدي الطلاب والزملاء وأنه سيكون لي صديقات ومحبوبات كثيرات، لن أعود الطريق المسدود أو المدخل العتيق.. هكذا وعدني.. أصبح يزورني ويحكي لي كل شيء.. بإمكاني أن أستدعيه بطرق شتي.. طرق كثيرة جداً، لكنه أغلب الوقت يأتي دون دعوة.. يجلب لي السجائر وشفرات الحلاقة وأشياء أخري حميمة..
جرس الهاتف يدق.. .
يدق طويلاً.. .
كم يبدو رنينه جميلاً.. .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق