الجمعة، 16 أغسطس 2013

ماي لاي و النحاس الأخضر!

ثمة قصتان تستحقان الاهتمام، قصتان متشابهتان إلى حد كبير، رغم تباين الزمان و المكان بينهما، قصتان رغم أن إحداهما لا تخصنا بشكل مباشر، إلا أن كليهما مفيدتان جداً في ضرب المثل على معنى كلمة (صحافة) و (صحفي حر) في مواجهة التضليل و التعمية مهما كان مصدرهما.
نبدأ بالقصة الأحدث،في عام ٢٠٠٤ ، في العراق تحديداً، و بينما يحتفل جورج بوش الإبن بما وصفه النصر الباهر للديموقراطية، و اقتلاع الديكتاتورية من الشرق الأوسط، بدأت سلسلة مقالات و تقارير تنشر في الولايات المتحده عن فظائع ارتكبها جنود الاحتلال في سجن أبو غريب، الفظائع كانت موثقة بال"النحاس الأخضر". كانت تلك التقارير فضيحة مدوية ألقت بأثرها على كل إداره بوش و تسببت في إسقاط رؤوس كبيرة بينها وزير الدفاع ذاته. و جعلت الإدارة الأمركية تنغمس في التبريرات و مواجه استجوابات الصحافة و الرأي العام لفترة طويلة أدت إلى انهيار الدعم الشعبي لعملية الاحتلال و رحيل الجمهورين عن الحكم.
صور و الشهادات، و ما لم يعرفه كثير من الناس أن ذلك التعذيب لم يكن وليد نزوات الجنود المتحمسين بل جزء من خطه منهجية و ضعها وزير الدفاع الأمريكي رامسفيلد من أجل انتزاع الاعترافات و تحطيم مقاومة المعتقلين سبق و أن استخدمت في أفغانستان و جوانتانمو و سميت ببرنامج "النحاس الأخضر". كانت تلك التقارير فضيحة مدوية ألقت بأثرها على كل إداره بوش و تسببت في إسقاط رؤوس كبيرة بينها وزير الدفاع ذاته. و جعلت الإدارة الأمركية تنغمس في التبريرات و مواجه استجوابات الصحافة و الرأي العام لفترة طويلة أدت إلى انهيار الدعم الشعبي لعملية الاحتلال و رحيل الجمهورين عن الحكم.
القصة الثانية حدثت قبل أربعة عقود، عام ١٩٦٩ تحديداً، فرقة غاضبة من الجيش الأمريكي في فيتنام قررت أن تنتقم لبعض خسائرها من الثوار، قام قائد الفرقة بمحاصرة قرية تدعى ماي لاي، من الوهلة الأولى اتضح أن القرية خالية من المقاتلين و أن كل سكانها من النساء و الأطفال و كبار السن لكن ذلك لم يمنع الجنود من اقتحامها بل زاد من سعارهم، جمع الجنود السكان خارج المنازل، ثم قامو بإحراقها، اغتصبوا الفتيات، قتلوا السكان جميعاً، تنوعت أساليب القتل بين الذبح و الحرق و إطلاق النار العشوائي، و مع نهاية الهجوم تمت إبادة القرية بشكل كامل. تم التكتم على الخبر، حتى تمكن صحفي شجاع من جمع خيوط القصة و بادر بنشرها، كانت صدمة مدوية، أثارت ردود فعل عنيفة، و أعطت دفعة قوية للحملة المناهضة للحرب، و أخضع قائد الفرقة للمحاكمة التي قضت بسجنه مدى الحياة.
حسناً، قد يبدو الرابط بين القصتين هو بشاعة و همجية الاحتلال الأمريكي رغم البروباجندا التي تروج له، ذلك صحيح ولا شك ولكن الرابط الأهم و الأعمق هو أن من فضح ذلك الجيش في كلا المرتين هو الصحفي ذاته، صحفي أمريكي يدعى "سيمور هيرش"، صحفي مستقل يكتب في صحافة بلاده، ورغم إحراجه لحكومه و جيش بلاده بتلك الفضائح لم يخون و لم يعتقل، بل تم تكريمه بعدد لا يحصى من الجوائز. سيمور هيرش رغم أنه يعد أقلية وسط التيار السائد إلا أنه يمثل المعنى الحقيقي للصحافة المستقلة كسلطة رابعة، سلطه أمينة على المجتمع تراقب أداء المؤسسات الحكومية و تكشف انحرافها. سلطة بمثابة إشارة مرور حمراء تمنع التجاوزات على الطريق أياً كان مستخدم ذلك الطريق.
إن أهم مقاييس تحضر المجتمعات ليس في نظافة شوارعها أو انسيابية مرورها أو علو و جمال مبانيها،بل هو في قيم احترام الحكومات لضوابط القانون، واحترامها لاستقلالية صحفها التي تراقب تطبيق ذلك القانون.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق